بدل من الشياطين على قراءة التشديد، و * (ما) * في * (وما أنزل) * نافية، والمراد من الملكين جبرائيل وميكائيل لأن اليهود زعموا أن الله تعالى أنزلهما بالسحر، وفي الكلام تقديم وتأخير، والتقدير: (وما كفر سليمان وما أنزل على الملكين ولكن الشياطين هاروت وماروت كفروا يعلمون الناس السحر ببابل) وعليه فالبدل إما بدل بعض من كل، ونص عليهما بالذكر لتمردهما، ولكونهما رأسا في التعليم، أو بدل كل من كل إما بناء على أن الجمع يطلق على الإثنين أو على أنهما عبارتان عن قبيلتين من الشياطين لم يكن غيرهما بهذه الصفة، وأعجب من قوله هذا قوله: وهذا أولى ما حملت عليه الآية من التأويل وأصح ما قيل فيها، ولا تلتفت إلى ما سواه. ولا يخفى لدي كل منصف أنه لا ينبغي لمؤمن حمل كلام الله تعالى - وهو في أعلى مراتب البلاغة والفصاحة - على ما هو أدنى من ذلك وما هو إلا مسخ لكتاب الله تعالى عز شأنه وإهباط له عن شأواه ومفاسد قلة البضاعة لا تحصى، وقيل إنهما بدل من الناس أي: يعلمون الناس خصوصا هاروت وماروت والنفي هو النفي.
* (وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر) * أي ما يعلم الملكان أحدا حتى ينصحاه ويقولا له إنما نحن ابتلاء من الله عز وجل فمن تعلم منا وعمل به كفر ومن تعلم وتوقى ثبت على الإيمان فلا تكفر باعتقاده وجواز العمل به، وقيل: فلا تتعلم معتقدا إنه حق حتى تكفر، وهو مبني - على رأي الاعتزال - من أن السحر تمويه وتخييل، ومن اعتقد حقيقته يكفر، و * (من) * مزيدة في المفعول به لإفادة تأكيد الاستغراق، وإفراد - الفتنة - مع تعدد المخبر عنه لكونها مصدرا، والحمل مواطأة للمبالغة، والقصر لبيان أنه ليس لهما فيما يتعاطيانه شأن سواها لينصرف الناس عن تعلمه، و * (حتى) * للغاية وقيل: بمعنى إلا، والجملة في محل النصب على الحالية من ضمير * (يعلمون) * والظاهر أن القول مرة واحدة والقول: بأنه ثلاث أو سبع أو تسع لا ثبت له، واختلف في كيفية تلقي ذلك العلم منهما فقال مجاهد إنهما لا يصل إليهما أحد من الناس وإنما يختلف إليهما شيطانان في كل سنة اختلافة واحدة فيتعلمان منهما، وقيل وهو الظاهر: إنهما كان يباشران التعليم بأنفسهما في وقت من الأوقات، والأقرب أنهما ليسا إذ ذاك على الصورة الملكية، وأما ما أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم وصححه والبيهقي في " سننه " عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت: قدمت علي امرأة من أهل دومة الجندل تبتغي رسول الله صلى الله عليه وسلمبعد موته تسأله عن شيء دخلت فيه من أمر السحر ولم تعمل به قالت: كان لي زوج غاب عني فدخلت على عجوز فشكوت إليها فقالت: إن فعلت ما آمرك اجعله يأتيك فلما كان الليل جاءتني بكلبين أسودين فركبت أحدهما وركبت الآخر فلم يكن كشيء حتى وقفنا ببابل، فإذا أنا برجلين معلقين بأرجلهما، فقالا: ما جاء بك؟ فقلت أتعلم السحر، فقالا: إنما نحن فتنة فلا تكفري وراجعي، فأبيت وقلت: لا، قالا: فاذهبي إلى ذلك التنور فبولي به، إلى أن قالت: فذهبت فبلت فيه، فرأيت فارسا مقنعا بحديد خرج مني حتى ذهب إلى السماء وغاب عني حتى ما أراه، فجئتهما وذكرت لهما فقالا: صدقت، ذلك إيمانك خرج منك، اذهبي فلن تريدي شيئا إلا كان - الخبر بطوله - فهو ونظائره - مما ذكره المفسرون من القصص في هذا الباب - مما لا يعول عليه ذوو الألباب، والإقدام على تكذيب مثل هذه الامرأة الدوجندية أولى من اتهام العقل في قبول هذه الحكاية التي لم يصح فيها شيء عن رسول رب البرية صلى الله عليه وسلم، ويا ليت كتب الإسلام لم تشتمل على هذه الخرافات التي لا يصدقها العاقل ولو كانت أضغاث أحلام، واستدل بالآية من جوز تعلم السحر، ووجهه أن فيها دلالة على وقوع التعليم من الملائكة مع عصمتهم، والتعلم مطاوع له، بل هما متحدان بالذات مختلفان بالاعتبار كالإيجاب