تفسير الآلوسي - الآلوسي - ج ١ - الصفحة ٣١٠
يبق حين عصوا وكفر آخرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم إلا إيمان قليل إذ لا ينفعهم لا يقدم عليه إلا القليل ممن لم يعط فهما في الألفاظ العربية، وروي عن أبي عمرو وغيره رفع قليل والكثير المشهور في أمثال ذلك النصب لأن ما قبله موجب، واختلفوا في تخريج الرفق فقيل: إن المرفوع تأكيد للضمير أو بدل منه، وجاز لأن (توليتم) في معنى النفي أي لم يفوا، وقد خرج غير واحد قوله صلى الله عليه وسلم: فيما صح على الصحيح: " العالمون هلكى إلا العالمون، والعالمون هلكى إلا العاملون، والعاملون هلكى إلا المخلصون، والمخلصون على خطر " وقول الشاعر:
وبالصريمة منهم منزل خلق * عاف تغير إلا النوء والوتد على ذلك، وقول أبي حيان إنه ليس بشيء إذ ما من إثبات إلا ويمكن تأويله بنفي فيلزم جواز قام القوم إلا زيد بالرفع على التأويل والإبدال - ولم يجوزه النحويون - ليس بشيء كما لا يخفى، وقيل: إن (إلا) صفة بمعنى غير ظهر إعرابها فيما بعدها، وقد عقد سيبويه لذلك بابا في " كتابه " فقال: هذا باب ما يكون فيه إلا وما بعدها وصفا بمنزلة غير ومثل، وذكر من أمثلة هذا الباب لو كان معنا رجل إلا زيد لغلبنا و * (لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا) * (الأنبياء: 22) وقوله: أينخت فألقت بلدة فوق بلدة * قليل بها الأصوات إلا بغامها وخرج جمع جميع ما سلف على هذا، وفيه أن ذلك فيما نحن فيه لا يستقيم إلا على مذهب ابن عصفور حيث ذهب إلى أن الوصف ب (إلا) يخالف الوصف بغيرها من حيث إنه يوصف بها النكرة والمعرفة، والظاهر والمضمر وأما على مذهب غيره - وهو ابن شاهين - بالنسبة إليه من أنه لا يوصف بها إلا إذا كان الموصوف نكرة أو معرفة - بلام الجنس - فلا، والمبرد يشترط في الوصف بها صلاحية البدل في موضعه؛ وقيل: إنه مبتدأ خبره محذوف أي لم يقولوا - ولا يرد عليه شيء مما تقدم - إلا أن فيه كلاما سنذكره إن شاء الله تعالى عند قوله تعالى: * (إلا إبليس لم يكن من الساجدين) * (الأعراف: 11).
* (وانتم معرضون) * جملة معترضة أي وأنتم قوم عادتكم الإعراض والتولي عن المواثيق، ويؤخذ كونه عادتهم من الاسمية الدالة على الثبوت، وقيل: حال مؤكدة - والتولي والإعراض شيء واحد - ويجوز فصل الحال المؤكدة - بالواو - عند المحققين وفرق بعضهم بين التولي والإعراض بأن الأول قد يكون لحاجة تدعو إلى الانصراف مع ثبوت العقد والإعراض هو الانصراف عن الشيء بالقلب. وقيل: إن التولي أن يرجع عوده إلى بدئه، والإعراض أن يترك المنهج ويأخذ في عرض الطريق والمتولي أقرب أمرا من المعرض لأنه متى عزم سهل عليه العود إلى سلوك المنهج والمعرض حيث ترك المنهج وأخذ في عرض الطريق يحتاج إلى طلب منهجه فيعسر عليه العود إليه.
ومن الناس من جوز أن يكون (معرضون) على ظاهره، والجملة حال مقيدة أي لم يتول القليل وأنتم معرضون عنهم ساخطون لهم فيكون في ذلك مزيد توبيخ لهم ومدحا للقليل - فهو بعيد - كالقول بأنها مقيدة ومتعلق التولي والإعراض مختلف أي توليتم على المضي في الميثاق وأعرضتم عن اتباع هذا النبي صلى الله عليه وسلم.
* (وإذ أخذنا ميث‍اقكم لا تسفكون دمآءكم ولا تخرجون أنفسكم من دي‍اركم ثم أقررتم وأنتم تشهدون) * * (وإذ أخذنا ميث‍اقكم لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دي‍اركم) * على نحو ما سبق في * (لا تعبدون) * (البقرة: 83) والمراد أن لا يتعرض بعضكم بعضا بالقتل والإجلاء وجعل قتل الرجل غيره قتل نفسه لاتصاله نسبا أو دينا، أو لأنه يوجبه قصاصا، ففي الآية مجاز، إما في ضمير - كم - حيث عبر به عمن يتصل به أو في * (تسفكون) * حيث أريد به ما هو سبب السفك. وقيل: معناه لا ترتكبوا ما يبيح سفك دمائكم وإخراجكم من دياركم، أو لا تفعلون ما يرديكم ويصرفكم عن لذات الحياة الأبدية فإنه القتل في الحقيقة ولا تقترفوا ما تمنعون به
(٣١٠)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 305 306 307 308 309 310 311 312 313 314 315 ... » »»