ذلك كمال مذمتهم، وبهذا التقرير يندفع توهم تكرار ما ذكر - بعد ما عقلوه - وحاصل الآية استبعاد الطمع في أن يقع من هؤلاء السفلة إيمان، وقد كان أحبارهم ومقدموهم على هذه الحالة الشنعاء، ولا شك أن هؤلاء أسوأ خلقا وأقل تمييزا من أسلافهم أو استبعادا لطمع في إيمان هؤلاء الكفرة المحرفين، وأسلافهم الذين كانوا زمن نبيهم فعلوا ذلك فلهم فيه سابقة، وبهذا يندفع ما عسى أن يختلج في الصدر من أنه كيف يلزم من إقدام بعضهم على التحريف حصول اليأس من إيمان باقيهم.
* (وإذا لقوا الذين ءامنوا قالوا ءامنا وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحآجوكم به عند ربكم أفلا تعقلون) * * (وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا) * جملة مستأنفة سيقت إثر بيان ما صدر عن أسلافهم لبيان ما صدر عنهم بالذات من الشنائع المؤيسة عن إيمانهم من نفاق بعض وعتاب آخرين عليهم، ويحتمل أن تكون معطوفة على * (وقد كان فريق منهم) * (البقرة: 75) الخ، وقيل: معطوف على * (يسمعون) * (البقرة: 75) وقيل: على قوله تعالى: * (وإذ قتلتم نفسا) * (البقرة: 72) عطف القصة على القصة وضمير * (لقوا) * لليهود على طبق * (أن يؤمنوا لكم) * (البقرة: 75) وضمير * (قالوا) * للاقين لكن لا يتصدى الكل للقول حقيقة، بل بمباشرة منافقيهم وسكوت الباقين، فهو إسناد ما للبعض للكل - ومثله أكثر من أن يحصى - وهذا أدخل، كما قال مولانا - مفتي الديار الرومية - في تقبيح حال الساكتين أولا: العاتبين ثانيا لما فيه من الدلالة على نفاقهم واختلاف أحوالهم وتناقض آرائهم من إسناد القول إلى المباشرين خاصة بتقدير المضاف، أي قال منافقوهم - كما فعله البعض - وقيل: الضمير الأول لمنافقي اليهود كالثاني ليتحد فاعل الشرط والجزاء مراعاة لحق النظم ويؤيده ما روي عن ابن عباس والحسن وقتادة في تفسير * (وإذا لقوا) * يعني منافقي اليهود المؤمنين الخلص قالوا: إلا أن السباق واللحاق - كما رأيت وسترى - يبعدان ذلك، وقرأ ابن السميقع * (لاقوا) *.
* (وإذا خلا بعضهم إلى بعض) * أي إذا انفرد بعض المذكورين - وهم الساكتون منهم - بعد فراغهم عن الاشتغال بالمؤمنين متوجهين منضمين إلى بعض آخر منهم وهم من نافق، وهذا كالنص على اشتراك الساكتين في لقاء المؤمنين، إذ - الخلو - إنما يكون بعد الاشتغال، ولأن عتابهم معلق بمحض - الخلو - ولولا إنهم حاضرون عند المقاولة لوجب أن يجعل سماعهم من تمام الشرط، ولأن فيه زيادة تشنيع لهم على ما أوتوا من السكوت ثم العتاب * (قالوا) * أي أولئك البعض الخالي موبخين لمنافقيهم على ما صنعوا بحضرتهم.
* (أتحدثونهم بما فتح الله عليكم) * أي تخبرون المؤمنين بما بينه الله تعالى لكم خاصة من نعت نبيه محمد صلى الله عليه وسلم أو من أخذ العهود على أنبيائكم بتصديقه صلى الله عليه وسلم ونصرته، والتعبير عند - بالفتح - للإيذان بأنه سر مكتوم وباب مغلق، وفي الآية إشارة إلى أنهم لم يكتفوا بقولهم: * (آمنا) * بل عللوه بما ذكر، وإنما لم يصرح به تعويلا على شهادة التوبيخ، ومن الناس من جوز كون هذا التوبيخ من جهة المنافقين لأعقابهم وبقاياهم الذين لم ينافقوا، وحينئذ يكون البعض الذي هو فاعل خلا عبارة عن المنافقين، وفيه وضع المظهر موضع المضمر تكثيرا للمعنى - والاستفهام إنكار - ونهي عن التحديث في الزمان المستقبل وليس بشيء - وإن جل قائله - اللهم إلا أن يكون فيه رواية صحيحة، ودون ذلك خرط القتاد.
* (ليحاجوكم به) * متعلق بالتحديث دون الفتح خلافا لمن تكلف له، والمراد تأكيد النكير وتشديد التوبيخ، فإن التحديث - وإن كان منكرا في نفسه - لكنه لهذا الغرض مما لا يكاد يصدر عن العاقل، والمفاعلة هنا غير مرادة، والمراد ليحتجوا به عليكم، إلا أنه إنما أتى بها للمبالغة، وذكر ابن تمجيد أنه لو ذهب أحد