تفسير الآلوسي - الآلوسي - ج ١ - الصفحة ٢٧٨
على أن كل واحد منهما مستقل في استحقاق الضرب فكيف إذا اجتمعا. وضعف هذا الوجه بأن التكرار خلاف الأصل مع فوات معنى لطيف حصل بالأول وسابقه بأنه لا يظهر حينئذ - لإيراد كلمة ذلك - فائدة إذ الظاهر * (بما عصوا) * الخ ويفوت أيضا ما يفوت، وحظ العارف من هذه الآيات الاعتبار بحال هؤلاء الذين لم يرضوا بالقضاء ولم يشكروا على النعماء ولم يصبروا على البلواء كيف ضرب عليهم ذل الطغيان قبل وجود الأكوان، وقهرهم بلطمة المسكنة في بيداء الخذلان وألبس قلوبهم حب الدنيا وأهبطهم من الدرجة العليا.
ومن باب الإشارة: الطعام الواحد هو الغذاء الروحاني من الحكمة والمعرفة، وما تنبته الأرض هو الشهوات الخبيثة واللذات الخسيسة والتفكهات الباردة الناشئة من أرض النفوس المبتذلة في مصر البدن الموجبة للذلة لمن ذاقها والمسكنة لمن لاكها والهلاك لمن ابتلعها، وسبب طلب ذلك الاحتجاب عن آيات الله تعالى وتجلياته وتسويد القلوب بدرن الذنوب، وقطع وريدها بقطع واردها، والذي يجر إلى هذا الغفلة عن المحبوب، والاعتياض بالأغيار عن ذلك المطلوب نسأل الله تعالى لنا ولكم العافية.
* (إن الذين ءامنوا والذين هادوا والنص‍ارى والص‍ابئين من ءامن بالله واليوم الاخر وعمل ص‍الحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون) * * (إن الذين ءامنوا) * لما انجر الكلام إلى ذكر وعيد أهل الكتاب قرن به ما يتضمن الوعد جريا على عادته سبحانه من ذكر الترغيب والترهيب وبهذا يتضح وجه توسيط هذه الآية وما قبلها بين تعداد النعم، وفي المراد ب * (الذين آمنوا) * هنا أقوال، والمروي عن سفيان الثوري أنهم المؤمنون بألسنتهم، وهم المنافقون بدليل انتظامهم في سلك الكفرة والتعبير عنهم بذلك دون عنوان النفاق للتصريح بأن تلك المرتبة وإن عبر عنها بالإيمان لا تجديهم نفعا ولا تنقذهم من ورطة الكفر قطعا، وعن السدي أنهم الحنيفيون ممن لم يلحق الرسول صلى الله عليه وسلم - كزيد بن عمرو بن نفيل وقس بن ساعدة وورقة بن نوفل - ومن لحقه - كأبي ذر وبحيرى - ووفد النجاشي الذين كانوا ينتظرون البعثة، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنهم المؤمنون بعيسى قبل أن يبعث الرسول صلى الله عليه وسلم، وروى السدي عن أشياخه أنهم المؤمنون بموسى إلى أن جاء عيسى عليهما السلام فآمنوا به، وقيل: إنهم أصحاب سلمان الذين قص حديثهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: " هم في النار " فأظلمت الأرض عليه كما روى مجاهد عنه فنزلت عند ذلك الآية إلى: * (يحزنون) * قال سلمان: فكأنما كشف عني جبل، وقيل: إنهم المتدينون بدين محمد صلى الله عليه وسلم مخلصين أو منافقين - واختاره القاضي - وكأن سبب الاختلاف قوله تعالى فيما بعد: * (من آمن) * الخ فإن ذلك يقتضي أن يكون المراد من أحدهما غير المراد من الآخر وأقل الأقوال مؤنة أولها: * (والذين هادوا) * أي تهودوا يقال: هاد وتهود إذا دخل في اليهودية، و - يهود - إما عربي من هاد إذا تاب سموا بذلك لما تابوا من عبادة العجل، ووجه التخصيص كون توبتهم أشق الأعمال كما مر، وإما معرب يهوذا بذال معجمة وألف مقصورة كأنهم سموا بأكبر أولاد يعقوب عليه السلام، وقرىء * (هادوا) * بفتح الدال أي مال بعضهم إلى بعض * (والنص‍ارى) * جمع نصران بمعنى نصراني، وورد ذلك في كلام العرب وإن أنكره البعض كقوله: تراه إذا دار العشي محنفا * ويضحي لديه وهو (نصران) شامس ويقال في المؤنث نصران كندمان وندمانة - قال سيبويه - وأنشد: كما سجدت نصرانة لم تحنف والياء في نصراني عنده للمبالغة كما يقال للأحمر أحمري إشارة إلى أنه عريق في وصفه، وقيل: إنها للفرق بين الواحد والجمع كزنج وزنجي، وروم ورومي، وقيل: النصارى جمع نصرى كمهرى ومهارى حذفت إحدى ياءيه وقلبت الكسرة فتحة للتخفيف فقلبت الياء ألفا وإلى ذلك ذهب الخليل، وهو اسم لأصحاب عيسى عليه السلام، وسموا بذلك لأنهم
(٢٧٨)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 273 274 275 276 277 278 279 280 281 282 283 ... » »»