تفسير الآلوسي - الآلوسي - ج ١ - الصفحة ٢٧٥
فإن قلت كونهم لا يصبرون على طعام واحد أفهم طلب ضم ذلك إليه - لا استبداله به - أجيب بأن قولهم: * (لن نصبر) * يدل على كراهتهم ذلك الطعام؛ وعدم الشكر على النعمة دليل الزوال، فكأنهم طلبوا زوالها ومجيء غيرها، وقيل: إنهم طلبوا ذلك، وخطابهم بهذا إشارة إلى أنه تعالى إذا أعطاهم ما سألوا منع عنهم المن والسلوى فلا يجتمعان، وقيل: الاستبدال في المعدة - وهو كما ترى - وقرأ أبي: - أتبدلون - وهو مجاز، لأن التبديل ليس لهم - إنما ذلك إلى الله تعالى - لكنهم لما كانوا يحصل التبديل بسؤالهم جعلوا مبدلين، وكان المعنى أتسألون تبديل الذي الخ، و * (الذي) * مفعول * (تستبدلون) * وهو الحاصل؛ و * (الذي) * دخلت عليه الباء هو الزائل، وهو * (أدنى) * صلة * (الذي) * وهو هنا واجب الإثبات - عند البصريين - إذ لا طول، و * (أدنى) * إما من الدنو أو مقلوب من الدون، وهو على الثاني ظاهر، وعلى الأول مجاز استعير فيه الدنو بمعنى القرب المكاني للخسة كما استعير البعد للشرف، فقيل: بعيد المحل بعيد الهمة، ويحتمل أن يكون مهموزا من الدناءة، وأبدلت فيه - الهمزة ألفا - ويؤيده قراءة زهير والكسائي * (أدنأ) * بالهمزة، وأريد بالذي هو خير المن والسلوى ومعنى خيرية هذا المأكول بالنسبة إلى ذلك غلاء قيمته وطيب لذته، والنفع الجليل في تناوله، وعدم الكلفة في تحصيله، وخلوه عن الشبهة في حله * (إهبطوا مصرا) * جملة محكية بالقول كالأولى، وإنما لم يعطف إحداهما على الأخرى في المحكي لأن الأولى خبر معنى، وهذه ليست كذلك، ولكونها كالمبينة لها فإن الإهباط طريق الاستبدال، هذا إذا جعل الجملتان من كلام الله تعالى أو كلام موسى، وإن جعل إحداهما من موسى والأخرى من الله تعالى، فوجه الفصل ظاهر، والوقف على (خير) كاف على الأول: وتام على الثاني: والهبوط يجوز أن يكون مكانيا بأن يكون التيه أرفع من المصر، وأن يكون رتبيا، وهو الأنسب بالمقام، وقرىء * (اهبطوا) * بضم الهمزة والباء - والمصر - البلد العظيم وأصله الحد والحاجز بين الشيئين، قال: وجاعل الشمس (مصرا) لا خفاء به * بين النهار وبين الليل قد فصلا وإطلاقه على البلد لأنه ممصور أي محدود، وأخذه من مصرت الشاة أمصرها - إذا حلبت كل شيء في ضرعها - بعيد، وحكي عن أشهب أنه قال: قال لي مالك: هي مصر قريتك مسكن فرعون - فهو إذا علم - وأسماء المواضع قد تعتبر من حيث المكانية فتذكر، وقد تعتبر من حيث الأرضية فتؤنث، فهو - إن جعل علما - فإما باعتبار كونه بلدة، فالصرف مع العلمية، والتأنيث لسكون الوسط، وإما باعتبار كونه - بلدا - فالصرف على بابه، إذ الفرعية الواحدة لا تكفي في منعه، ويؤيد ما قاله الإمام مالك رضي الله تعالى عنه: أنه في مصحف ابن مسعود (مصر) بلا - ألف بعد الراء - ويبعده أن الظاهر من التنوين التنكير، وأن قوله تعالى: * (ادخلوا الأرض المقدسة) * (المائدة: 21) يعني الشام التي كتب الله تعالى لكم للوجوب - كما يدل عليه عطف النهي - وذلك يقتضي المنع من دخول أرض أخرى، وأن يكون الأمر بالهبوط مقصورا على بلاد التيه - وهو ما بين بيت المقدس إلى قنسرين - ومن الناس من جعل (مصر) معرب - مصرائيم - كإسرائيل اسم لأحد أولاد نوح عليه السلام - وهو أول من اختطها - فسميت باسمه، وإنما جاز الصرف حينئذ لعدم الاعتداد بالعجمة لوجود التعريب والتصرف فيه فافهم وتدبر.
* (فإن لكم ما سألتم) * تعليل للأمر بالهبوط، وفي " البحر " أنها جواب للأمر - وكما يجاب بالفعل يجاب بالجملة - وفي ذلك محذوفان فإن ما يربط الجملة بما قبلها، والضمير العائد على * (ما) * والتقدير: فإن لكم فيها ما سألتموه
(٢٧٥)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 270 271 272 273 274 275 276 277 278 279 280 ... » »»