الثانية لأنها أقرب مذكور ولموافقته لقوله تعالى: * (ولا هم ينصرون) * ولأنه المتبادر من قوله: * (ولا يؤخذ منها عدل) * ومعنى عدم قبول الشفاعة حينئذ أنها إن جاءت بشفاعة شفيع لم تقبل منها وإما إلى الأولى لأنها المحدث عنها، والثانية فضلة ولأن المتبادر من نفي قبول الشفاعة أنها لو شفعت لم تقبل شفاعتها، وحينئذ معنى عدم - أخذ العدل - من الأولى أنه لو أعطى عدلا من الثانية لم يؤخذ، وكأن في الآية على هذا نوعا من الترقي ارتكب هنا وإن لم يرتكب في مقام آخر كأنه قيل: إن النفس الأولى لا تقدر على استخلاص صاحبتها من قضاء الواجبات وتدارك التبعات لأنها مشغولة عنها بشأنها، ثم إن قدرت على نفي ما كان بشفاعة لا يقبل منها، وإن زادت عليه بأن ضمت الفداء فلا يؤخذ منها، وإن حاولت الخلاص بالقهر والغلبة - وأنى لها ذلك - فلا تتمكن منه، واختار الكواشي جعل الضمير الأول للنفس الأولى، والثانية للثانية على اللف والنشر لما فيه من إجراء الجملتين على المعنى الظاهر منهما، ويهون أمر التفكيك الاتضاح، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو - ولا تقبل - بالتاء، وسفيان * (يقبل) * بفتح الياء، ونصب شفاعة على البناء للفاعل، وفيه التفات من ضمير المتكلم في * (نعمتي) * (البقرة: 47) الخ إلى ضمير الغائب وبناؤه للمفعول أبلغ.
* (ولا هم ينصرون) * النصر في الأصل المعونة، ومنه أرض منصورة ممدودة بالمطر، والمراد به هنا ما يكون بدفع الضرر - أي ولاهم يمنعون من عذاب الله عز وجل - والضمير راجع إما إلى ما دلت عليه النفس الثانية المنكرة الواقعة في سياق النفي من النفوس الكثيرة فيكون من قبيل ما تقدم ذكره معنى بدلالة لفظ آخر، وإما إلى النفس المنكرة من حيث كونها لعمومها بالنفي في معنى الكثرة كما قيل في قوله تعالى: * (فما منكم من أحد عنه حاجزين) * (الحاقة: 47) وأتى به مذكرا لتأويل النفوس بالعباد والأناسي، وفيه تنبيه على أن تلك النفوس عبيد مقهورون مذللون تحت سلطانه تعالى، وأنهم ناس كسائر الناس في هذا الأمر، وعوده إلى النفسين بناء على أن التثنية جمع ليس بشيء، وجعل النفي - منسحبا على جملة اسمية للتقوى، ورفع * (هم) * على الابتداء والجملة بعده خبره، وجعله مفعولا لما لم يسم فاعله والفعل بعده مفسر فتوافق الجمل - لا أوافق على اختياره - وإن ذهب إليه بعض الأجلة - وتمسك المعتزلة بعموم الآية على نفي الشفاعة لأهل الكبائر - وكون الخطاب للكفار والآية نازلة فيهم - لا يدفع العموم المستفاد من اللفظ، وأجيب بالتخصيص من وجهين، الأول: بحسب المكان والزمان فإن مواقف القيامة ومقدار زمانها فيها سعة وطول، ولعل هذه الحالة في ابتداء وقوعها وشدته ثم يأذن بالشفاعة، وقد قيل: مثل ذلك في الجمع بين قوله تعالى: * (فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون) * (المؤمنون: 101) وقوله تعالى: * (وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون) * (الطور: 25) وكون مقام الوعيد يأبى عنه غير مسلم، والثاني: بحسب الأشخاص إذ لا بد لهم من التخصيص في غير العصاة لمزيد الدرجات فليس العام باقيا على عمومه عندهم وإلا اقتضى نفي زيادة المنافع وهم لا يقولون به، ونحن نخصص في العصاة بالأحاديث الصحيحة البالغة حد التواتر، وحيث فتح باب التخصيص نقول أيضا: ذلك النفي مخصص بما قبل الإذن، لقوله تعالى: * (لا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن) * (سبأ: 23) وهو تخصيص له دليل، وتخصيصهم لا يظهر له دليل على أن الشفاعة بزيادة المنافع يكاد أن لا تكون شفاعة وإلا لكنا شفعاء الرسول صلى الله عليه وسلم عند الصلاة عليه مع أن الإجماع وقع منا ومنهم على أنه هو الشفيع، وأيضا في قوله تعالى: * (واستغفر لذنبك وللمؤمنين) * (محمد: 19) ما يشير إلى الشفاعة التي ندعيها - ويحث على التخصيص الذي نذهب إليه - رزقنا الله تعالى الشفاعة وحشرنا في زمرة أهل السنة والجماعة، ولما قدم سبحانه ذكر نعمه إجمالا أراد أن يفصل ليكون أبلغ في التذكير وأعظم في الحجة فقال:
* (وإذ نجيناكم من ءال فرعون يسومونكم سوء العذاب يذبحون أبنآءكم ويستحيون نسآءكم وفى ذالكم بلاء من ربكم عظيم) * * (وإذ نجيناكم من ءال فرعون يسومونكم سوء العذاب) * وهو على الشائع عطف على * (نعمتي) * (البقرة: 47) بتقدير: اذكروا