تفسير الآلوسي - الآلوسي - ج ١ - الصفحة ٢٥٠
غير مقطوع به - وإن كان أحد جزئيه مقطوعا - أن يقال: إن الرجوع إلى الرب هنا المصير إلى جزائه الخاص، أعني الثواب بدار السلام، والحلول بجواره جل شأنه - والكل خلاف الظاهر - ولهذا اختير تفسير الظن باليقين مجازا، ومعنى التوقع والانتظار في ضمنه، ولقاء الله تعالى بمعنى الحشر إليه، والرجوع بمعنى المجازات - ثوابا أو عقابا - فكأنه عز شأنه قال: يعلمون أنهم يحشرون إليهم فيجازيهم متوقعين لذلك، وكأن النكتبة في استعمال الظن المبالغة في إيهام أن من ظن ذلك لا يشق عليه ما تقدم - فكيف من تيقنه - والتعرض لعنوان الربوبية للإشعار بعلية الربوبية - والمالكية للحكم - وجعل خبر (أن) في الموضعين اسما للدلالة على تحقق اللقاء والرجوع وتقررهما عنده، وقرأ ابن مسعود رضي الله تعالى عنه (يعلمون) وهي تؤيد هذا التفسير.
ومن باب الإشارة: * (أتأمرون الناس بالبر) * الذي هو الفعل الجميل الموجب لصفاء القلب وزكاء النفس ولا تفعلون ما ترتقون به من مقام تجلي الأفعال إلى تجلي الصفات * (وأنتم تتلون كتاب) * فطرتكم الذي يأمركم بالدين السالك بكم سبيل التوحيد * (أفلا تعقلون) * (البقرة: 44) فتقيدون مطلقات صفاتكم الذميمة بعقال ما أفيض عليكم من الأنوار القديمة، واطلبوا المدد والعون ممن له القدرة الحقيقية بالصبر على ما يفعل بكم، لكي تصلوا إلى مقام الرضا والصلاة التي هي المراقبة وحضور القلب لتلقي تجليات الرب، وإن المراقبة لشاقة - إلا على - المنكسرة قلوبهم، اللينة أفئدتهم لقبول أنوار التجليات اللطيفة، واستيلاء سطواتها القهرية، فهم الذين يتيقنون أنهم بحضرة ربهم * (وأنهم إليه راجعون) * (البقرة: 46) بفناء صفاتهم ومحوها في صفاته؛ فلا يجدون في الدار إلا شؤون الملك اللطيف القهار.
* (ي‍ابنى إسراءيل اذكروا نعمتى التىأنعمت عليكم وأنى فضلتكم على الع‍المين) * * (يابني إسراءيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم) * كرر التذكير للتأكيد والإيذان بكمال غفلتهم عن القيام بحقوق النعمة، وليربط ما بعده من الوعد الشديد به لتتم الدعوة بالترغيب والترهيب، فكأنه قال سبحانه: إن لم تطيعوني لأجل سوابق نعمتي، فأطيعوني للخوف من لواحق عقابي، ولتذكير التفضيل الذي هو أجل النعم، فإنه لذلك يستحق أن يتعلق به التذكير بخصوصه مع التنبيه على أجليته بتكرير النعمة التي هي فرد من أفرادها.
* (وأني فضلتكم على الع‍المين) * عطف على * (نعمتي) * من عطف الخاص على العام، وهو مما انفردت به - الواو - كما في " البحر "، ويسمى هذا النحو من العطف - بالتجريد - كأنه جرد المعطوف من الجملة، وأفرد بالذكر اعتناءا به، والكلام على حذف مضاف - أي فضلت آباءكم - وهم الذين كانوا قبل التغيير، أو باعتبار أن نعمة الآباء نعمة عليهم، قال الزجاج: والدليل على ذلك قوله تعالى: * (وإذ نجيناكم) * (البقرة: 49) الخ، والمخاطبون لم يروا فرعون ولا آله، ولكنه تعالى أذكرهم أنه لم يزل منعما عليهم، والمراد بالعالمين سائر الموجودين في وقت التفضيل، وتفضيلهم بما منحهم من النعم المشار إليها بقوله تعالى: * (وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا) * (المائدة: 20) فلا يلزم من الآية تفضيلهم على النبي صلى الله عليه وسلم ولا على أمته، الذين هم خير أمة أخرجت للناس وكذا لا يصح الاستدلال بها على أفضلية البشر على الملائكة من جميع الوجوه - ولو صح ذلك - يلزم تفضيل عوامهم على خواص الملائكة، ولا قائل به.
ومن اللطائف أن الله سبحانه وتعالى أشهد بني إسرائيل فضل أنفسهم فقال: * (وأني فضلتكم) * الخ، وأشهد المسلمين فضل نفسه فقال: * (قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا) * (يونس: 58) فشتان من مشهوده فضل ربه، ومن مشهوده فضل نفسه فالأول: يقتضي الفناء والثاني: يقتضي الإعجاب، والحمد لله الذي فضلنا على كثير
(٢٥٠)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 245 246 247 248 249 250 251 252 253 254 255 ... » »»