بلغ فلهم مكة وبقي رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده ليس معه إلا عمه العباس آخذا بلجام بغلته وابن عمه أبو سفيان ابن الحرث آخذا بركابه وهو يركض البغلة نحو المشركين وهو يقول أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب روى أنه صلى الله عليه وسلم كان يحمل على الكفار فيفرون ثم يحملون عليه فيقف لهم فعل ذلك بضع عشرة مرة قال العباس كنت أكف البغلة لئلا تسرع به نحو المشركين وناهيك بهذه الواحدة شهادة صدق على أنه صلى الله عليه وسلم كان في الشجاعة ورباطة الجأش سباقا للغايات القاصية وما كان ذلك إلا لكونه مؤيدا من عند الله العزيز الحكيم فعند ذلك قال يا رب ائتني بما وعدتني وقال للعباس وكان صيتا صح بالناس فنادى الأنصار فخذا فخذا ثم نادى يا أصحاب الشجرة يا أصحاب سورة البقرة فكروا عنقا واحدا وهم يقولون لبيك لبيك وذلك قوله تعالى «ثم أنزل الله سكينته على رسوله» أي رحمته التي تسكن بها القلوب وتطمئن إليها اطمئنانا كليا مستتبعا للنصر القريب وأما مطلق السكينة فقد كانت حاصلة له صلى الله عليه وسلم قبل ذلك أيضا «وعلى المؤمنين» عطف على رسوله وتوسيط الجار بينهما للدلالة على ما بينهما من التفاوت أي المؤمنين الذين انهزموا وقيل على الذين ثبتوا مع النبي صلى الله عليه وسلم أو على الكل وهو الأنسب ولا ضير في تحقق أصل السكينة في الثابتين من قبل والتعرض لوصف الإيمان للإشعار بعلية الإنزال «وأنزل جنودا لم تروها» أي بأبصاركم كما يرى بعضكم بعضا وهم الملائكة عليهم السلام عليهم البياض على خيول بلق فنظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى قتال المسلمين فقال هكذا حين حمى الوطيس فأخذ كفا من التراب فرمى به نحو المشركين وقال شاهت الوجوه فلم يبق منهم أحدا إلا امتلأت به عيناه ثم قال صلى الله عليه وسلم انهزموا ورب الكعبة واختلفوا في عدد الملائكة يومئذ فقيل خمسة آلاف وقيل ثمانية آلاف وقيل ستة عشر ألفا وفي قتالهم أيضا فقيل قاتلوا وقيل لم يقاتلوا إلا يوم بدر وإنما كان نزولهم لتقوية قلوب المؤمنين بإلقاء الخواطر الحسنة وتأييدهم بذلك وإلقاء الرعب في قلوب المشركين قال سعيد بن المسيب حدثني رجل كان في المشركين يوم حنين قال لما كشفنا المسلمين جعلنا نسوقهم فلما انتهينا إلى صاحب البغلة الشهباء تلقانا رجال بيض الوجوه فقالوا شاهت الوجوه ارجعوا فرجعنا فركبوا أكتافنا «وعذب الذين كفروا» بالقتل والأسر والسبي «وذلك» أي ما فعل بهم مما ذكر «جزاء الكافرين» لكفرهم في الدنيا «ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء» أن يتوب عليه منهم لحكمة تقتضيه أي يوفقه للإسلام «والله غفور» يتجاوز عما سلف منهم من الكفر والمعاصي «رحيم» يتفضل عليهم ويثيبهم روى أن ناسا منهم جاءوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وبايعوه على الإسلام وقالوا يا رسول الله أنت خير الناس وأبر الناس وقد سبي أهلونا وأولادنا وأخذت أموالنا قيل سبي يومئذ ستة آلاف نفس وأخذ من الإبل والغنم ما لا يحصى فقال صلى الله عليه وسلم إن عندي ما ترون إن خير القول أصدقه اختاروا
(٥٦)