تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٨ - الصفحة ٣٩
دينك وسنتك، وآمنت بربك ورب كل شيء، وآمنت بكل ما جاء من ربك من شرائع الإسلام، فإن أدركتك فيها ونعمت، وإن لم أدركك، فاشفع لي، ولا تنسني يوم القيامة، فإني من أمتك الأولين، وتابعتك قبل مجيئك، وأنا على ملتك وملة أبيك إبراهيم عليه السلام. ثم ختم الكتاب ونقش عليه: لله الأمر من قبل ومن بعد. وكتب عنوانه: إلى محمد بن عبد الله، نبي الله ورسوله، خاتم النبيين، ورسول رب العالمين صلى الله عليه وسلم)، من تبع الأول. ويقال: كان الكتاب والشعر عند أبي أيوب، خالد بن زيد، فلم يزل عنده حتى بعث النبي صلى الله عليه وسلم)، وكانوا يتوارثونه كابرا عن كابر، حتى أدوه للنبي صلى الله عليه وسلم).
وعن ابن عباس: كان تبع نبيا، وعنه لما أقبل تبع من الشرق، بعد أن حير الحيرة وسمرقند، قصد المدينة، وكان قد خلف بها حين سافر، فقتل غيلة، فأجمع على خرابها واستئصال أهلها. فجمعوا له الأنصار، وخرجوا لقتاله، وكانوا يقاتلونه بالنهار ويقرونه بالليل. فأعجبه ذلك وقال: إن هؤلاء لكرام، إذ جاءه كعب وأسد، ابنا عم من قريظة جيران، وأخبراه أنه يحال بينك وبين ما تريد، فإنها مهاجر نبي من قريش اسمه محمد، ومولده بمكة، فثناه قولهما عما كان يريد. ثم دعواه إلى دينهما، فاتبعهما وأكرمهما. وانصرفوا عن المدينة، ومعهم نفر من اليهود، فقال له في الطريق نفر من هذيل: يدلك على بيت فيه كنز من لؤلؤ وزبرجد وفضة بمكة، وأرادت هذيل هلاكه، لأنهم عرفوا أنه ما أراده أحد بسوء إلا هلك. فذكر ذلك للحبرين، فقالوا: ما نعلم الله بيتا في الأرض غير هذا، فاتخذه مسجدا، وانسك عنده، واحلق رأسك، وما أراد القوم إلا هلاكك. فأكرمه وكساه، وهو أول من كسا البيت؛ وقطع أيدي أولئك النفر من هذيل وأرجلهم، وسمر أعينهم وصلبهم.
وقال قوم: ليس المراد بتبع رجلا واحدا، إنما المراد ملوك اليمن، وكانوا يسمون التتابعة. والذي يظهر أنه أراد واحدا من هؤلاء، تعرفه العرب بهذا الاسم أكثر من معرفة غيره به. وفي الحديث: (لا تسبوا تبعا فإنه كان مؤمنا)، فهذا يدل على أنه واحد بعينه. قال الجوهري: التتابعة ملوك اليمن، والتبع: الظل، والتبع: ضرب من الطير. وقال أبو القاسم السهيلي: تبع لكل ملك اليمن، والشحر حضرموت، وملك اليمن وحده لا يسمى تبعا، قاله المسعودي. والخيرية الواقعة فيها التفاضل، وكلا الصنفين لا خير فهم، هي بالنسبة للقوة والمنعة، كما قال: * (أكفاركم خير من أولئكم) *؟ بعد ذكر آل فرعون في تفسير ابن عباس: أهم أشد أم قوم تبع؟ وإضافة قوم إلى تبع دليل على أنه لم يكن مذهبهم. * (أهلكناهم إنهم كانوا مجرمين) *: إخبار عما فعل تعالى بهم، وتنبيه على أن علة الإهلاك هي الإجرام، وفي ذلك وعيد لقريش، وتهديد أن يفعل بهم ما فعل بقوم تبع ومن قبلهم من مكذبي الرسل لإجرامهم، ثم ذكر الدليل القاطع على صحة القول بالبعث، وهو خلق العالم بالحق. وقرأ الجمهور: * (وما بينهما) * من الجنسين، وعبيد بن عميس: وما بينهن لاعبين. قال مقاتل: عابثين.
* (ما خلقناهما إلا بالحق) *: أي بالعدل، يجازي المحسن والمسيء بما أراد تعالى من ثواب وعقاب. * (ولاكن أكثرهم لا يعلمون) * أنه تعالى خلق ذلك، فهم لا يخافون عقابا ولا يرجون ثوابا. وقرئ: ميقاتهم، بالنصب، على أنه اسم إن، والخبر يوم الفصل، أي: إن يوم الفصل ميعادهم وجزاؤهم، * (يوم لا يغنى مولى عن مولى شيئا) * يعم جميع الموالي من القرابة والعتاقة والصلة شيئا من إغناء، أي قليلا منه: * (ولا هم ينصرون) *: جمع، لأن عن مولى في سياق النفي فيعم، فعاد على المعنى، لا على اللفظ. * (إلا من رحم الله) *، قال الكسائي: من رحم: منصوب على الاستثناء المنقطع، أي لكن من رحمه الله لا ينالهم ما يحتاجون فيه من لعنهم من المخلوقين. قيل: ويجوز أن يكون الاستثناء متصلا، أي لا يغني قريب عن قريب إلا المؤمنين، فإنه يؤذن لهم في شفاعة بعضهم لبعض. وقال الحوفي: ويجوز أن يكون بدلا من مولى المرفوع، ويكون يغني بمعنى ينفع. وقال الزمخشري: * (من رحم الله) *، في محل الرفع على البدل من الواو في * (ينصرون) *، أي لا يمنع من العذاب إلا من رحم الله
(٣٩)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 ... » »»