تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٨ - الصفحة ٣٤
وفخامة نفسه بأن قال: أعني بهذا الأمر أمرا حاصلا من عندنا، كائنا من لدنا، وكما اقتضاه علمنا وتدبيرنا، كذا قال الزمخشري. وقال: وفي قراءة زيد بن علي: * (أمرا من عندنا) *، على هو أمرا، وهي نصب على الاختصاص ومقبولا له، والعامل أنزلنا، أو منذرين، أو يفرق، ومصدرا من معنى يفرق، أي فرقا من عندنا، أو من أمرنا محذوفا وحالا، قيل: من كل، والذي تلقيناه من أشياخنا أنه حال من أمر، لأنه وصف بحكيم، فحسنت الحال منه، إلا أن فيه الحال من المضاف إليه، وهو ليس في موضع رفع ولا نصب، ولا يجوز. وقيل: من ضمير الفاعل في أنزلناه، أي أمرني. وقيل: من ضمير المفعول في أنزلناه، أي في حال كونه أمرا من عندنا بما يجب أن يفعل. والظاهر أن من عندنا صفة لأمرا، وقيل: يتعلق بيفرق.
* (إنا كنا مرسلين) *: لما ذكر إنزال القرآن، ذكر المرسل، أي مرسلين الأنبياء بالكتب للعباد. فالجملة المؤكدة مستأنفة. وقيل: يجوز أن يكون بدلا من * (إنا كنا منذرين) *. وجوزوا في رحمة أن يكون مصدرا، أي رحمنا رحمة، وأن يكون مفعولا له بأنزلناه، أو ليفرق، أو لأمرا من عندنا. وأن يكون مفعولا بمرسلين؛ والرحمة توصف بالإرسال، كما وصفت به في قوله: * (وما يمسك فلا مرسل له من بعده) *. والمعنى على هذا: أنا نفصل في هذه الليلة كل أمر، أو تصدر الأوامر من عندنا، لأن من عادتنا أن نرسل رحمتنا. وقرأ زيد بن علي، والحسن: رحمة، بالرفع: أي تلك رحمة من ربك، التفاتا من مضمر إلى ظاهر، إذ لو روعي ما قبله، لكان رحمة منا، لكنه وضع الظاهر موضع المضمر، إيذانا بأن الربوبية تقتضي الرحمة على المربوبين. وقرأ ابن محيصن، والأعمش، وأبو حيوة، والكوفيون: * (رب * السماوات) *، بالخفض بدلا من ربك؛ وباقي السبعة، والأعرج، وابن أبي إسحاق، وأبو جعفر، وشيبة: بالرفع على القطع، أي هو رب. وقرأ الجمهور: * (ربكم ورب) *، برفعهما؛ وابن أبي إسحاق، وابن محيصن، وأبو حيوة، والزعفراني، وابن مقسم، والحسن، وأبو موسى عيسى بن سليمان، وصالح الناقط، كلاهما عن الكسائي: بالجر؛ وأحمد بن جبير الأنطاكي: ربكم ورب، بالنصب على المدح، وهم يخالفون بين الإعراب، الرفع والنصب، إذا طالت النعوت. وقوله: * (إن كنتم موقنين) *، تحريك لهم بأنكم تقرون بأنه تعالى خالق العالم، وأنه أنزل الكتب، وأرسل الرسل رحمة منه، وأن ذلك منكم من غير علم وإيقان. ولذلك جاء: * (بل هم فى شك يلعبون) *، أي في شك لا يزالون فيه يلعبون. فإقرارهم ليس عن حد ولا تيقن.
* (فارتقب يوم تأتى السماء بدخان مبين) *. قال علي بن طالب، وابن عمر، وابن عباس، وسعيد الخدري، وزيد بن علي، والحسن: هو دخان يجيء يوم القيامة، يصيب المؤمن منه مثل الزكام، وينضج رؤوس الكافرين والمنافقين، حتى تكون مصقلة حنيذة. وقال ابن مسعود، وأبو العالية، والنخعي: هو الدخان الذي رأته قريش. قيل لعبد الله: إن قاصا عند أبواب كندة يقول إنه دخان يأتي يوم القيامة، فيأخذ أنفاس الناس، فقال: من علم علما فليقل به، ومن لم يعلم فليقل: الله أعلم. ألا وسأحدثكم أن قريشا لما استعصت على رسول الله صلى الله عليه وسلم)، دعا عليهم فقال: (اللهم اشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسني يوسف)، فأصابهم الجهد حتى أكلوا الجيف، والعلهز. والعلهز: الصوف يقع فيه القراد فيشوى الصوف بدم القراد ويؤكل. وفيه أيضا: حتى أكلوا العظام. وكان الرجل يرى بين السماء والأرض الدخان، وكان يحدث الرجل فيسمع الكلام ولا يرى المحدث من الدخان. فمشى إليه أبو سفيان ونفر معه، وناشده الله والرحم، وواعدوه، إن دعا لهم وكشف عنهم، أن يؤمنوا. فلما كشف عنهم، رجعوا إلى شركهم. وفيه: فرحمهم النبي صلى الله عليه وسلم)، وبعث إليهم بصدقة ومال. وفيه: فلما أصابتهم الرفاهية عادوا إلى حالهم، فأنزل الله عز وجل: * (يوم نبطش البطشة الكبرى إنا
(٣٤)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 ... » »»