تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٨ - الصفحة ٢٨
الغنوي: يا مال، بالبناء على الضم، جعل اسما على حياله. واللام في: * (ليقض) * لام الطلب والرغبة. والمعنى: يمتنا مرة حتى لا يتكرر عذابنا، كقوله: * (فوكزه موسى فقضى عليه) *، أي أماته. * (قال) *: أي مالك، * (إنكم ماكثون) *: أي مقيمون في النار لا تبرحون. وقال ابن عباس: يجيبهم بعد مضي ألف سنة، وقال نوف: بعد مائة، وقيل: ثمانين، وقال عبد الله بن عمرو: أربعين. * (لقد جئناكم بالحق) *: يظهر أنه من كلام الله تعالى. وقيل: من كلام بعض الملائكة، كما يقول أحد خدم الرئيس: أعلمناكم وفعلنا بكم. قيل: ويحتمل أن يكون * (لقد جئناكم) * من قول الله لقريش بعقب حكاية أمر الكفار مع مالك، وفي هذا توعد وتخويف بمعنى: انظروا كيف يكون حالكم. * (أم أبرموا) *: والضمير لقريش، أي بل أحكموا أمرا من كيدهم للرسول ومكرهم، * (فإنا مبرمون) * كيدنا، كما أبرموا كيدهم، كقوله: * (أم يريدون كيدا فالذين كفروا هم المكيدون) *، وكانوا يتناجون ويتسارعون في أمر الرسول، فقال تعالى: * (أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم) *، وهو ما يحدث به الرجل نفسه أو غيره في مكان خال. * (ونجواهم) *: وهي ما تكلموا به فيما بينهم. * (بلى) *: أي نسمعها، * (رسلنا) *، وهم الحفظة.
* (قل إن كان للرحمان ولد) *، كما تقولون، * (فأنا أول) * من يعبده على ذلك، ولكن ليس له شيء من ذلك. وأخذ الزمخشري هذا القول وحسنه بفصاحته فقال: إن كان للرحمن ولد، وصح ذلك وثبت ببرهان صحيح يوردونه، وحجة واضحة يبذلونها، فأنا أول من يعظم ذلك الولد، وأسبقكم إلى طاعته والانقياد له، كما يعظم الرجل ولد الملك لعظم أبيه. وهذا كلام وارد على سبيل الفرض والتمثيل لغرض، وهو المبالغة في نفي الولد والإطناب فيه، وأن لا يترك الناطق به شبهة إلا مضمحلة مع الترجمة عن نفسه بثبات القدم في باب التوحيد، وذلك أنه علق العبادة بكينونة الولد، وهي محال في نفسها، فكان المعلق بها محالا مثلها. فهو في صورة إثبات الكينونة والعبادة، وفي معنى نفيها على أبلغ الوجوه وأقواها. ثم قال الزمخشري: ونظيره أن يقول العدلي للمجبر. ثم ذكر كلاما يستحق عليه التأديب، بل السيف، نزهت كتابي عن ذكره. ثم قال: وقد تمحل الناس بما أخرجوه به من هذا الأسلوب الشريف الملئ بالنكت والفوائد المستقلة بالتوحيد على أبلغ وجوهه، فقيل: إن كان للرحمن ولد، في زعمكم، فأنا أول العابدين، الموحدين لله، المكذبين قولهم بإضافة الولد إليه. وقيل: إن كان للرحمن ولد، فأنا أول الآنفين من أن يكون له ولد من عبد يعبد، إذ اشتد أنفه فهو عبد وعابد. وقرأ بعضهم: عبدين، وقيل: هي إن النافية، أي ما كان للرحمن ولد، فأنا أول من قال بذلك وعبد ووحد.
وروي أن النضر بن عبد الدار بن قصي قال: أن الملائكة بنات الله، فنزلت، فقال النضر: ألا ترون أنه قد صدقني؟ فقال له الوليد بن المغيرة: ما صدقك، ولكن قال: ما كان للرحمن ولد، فأنا أول الموحدين من أهل مكة أن لا ولد له. انتهى. أما القول: إن كان لله ولد في زعمكم، فهو قول مجاهد، وأما القول: فأنا أول الآنفين، فهو قول جماعة، حكاه عنهم أبو حاتم ولم يسم أحدا منهم، ويدل عليه قراءة السلمي واليماني: العبدين، وقراءة ذكرها الخليل بن أحمد في كتابه العين: العبدين، بإسكان الباء، تخفيف العبدين بكسرها. وذكر صاحب اللوامح أنه جاء عن ابن عباس في معنى العابدين: أنه الآنفين انتهى. وقال ابن عرفة: يقال: عبد يعبد فهو عبد، وقلما يقال: عابد. والقرآن لا يأتي بالقليل من اللغة ولا الشاذ، ثم قال: كقول مجاهد. وقال الفرزدق:
* أولئك آبائي فجئني بمثلهم * واعبد أن أهجوا كليبا بدارمي * أي: آنف وأستنكف. وقال آخر:
(٢٨)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 ... » »»