تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٨ - الصفحة ٢٥
وفيها ما تشتهيه الانفس وتلذ الاعين وأنتم فيها خالدون * وتلك الجنة التى أورثتموها بما كنتم تعملون * لكم فيها فاكهة كثيرة منها تأكلون) *.
لما ذكر تعالى طرفا من قصة موسى عليه السلام، ذكر طرفا من قصة عيسى عليه السلام. وعن ابن عباس وغيره: لما نزل * (إن مثل عيسى عند الله كمثل ءادم) *، ونزل كيف خلق من غير فحل، قالت قريش: ما أراد محمد من ذكر عيسى إلا أن نعبده، كما عبدت النصارى عيسى، فهذا كان صدودهم من ضربه مثلا. وقيل: ضرب المثل بعيسى، هو ما جرى بين الزبعري وبين الرسول عليه الصلاة والسلام في القصة المحكية في قوله: * (إنكم وما تعبدون) *. وقد ذكرت في سورة الأنبياء في آخرها أن ابن الزبعري قال: فإذا كان هؤلاء أي عيسى وأمه وعزير في النار، فقد وصفنا أن نكون نحن وآلهتنا معهم. وقيل: المثل هو أن الكفار لما سمعوا أن النصارى تعبد عيسى قالوا: آلهتنا خير من عيسى، قال ذلك منهم من كان يعبد الملائكة. وضرب مبني للمفعول، فاحتمل أن يكون الفاعل ابن الزبعري، إن صحت قصته، وأن يكون الكفار. وقرأ أبو جعفر، والأعرج، والنخعي، وأبو رجاء، وابن وثاب، وعامر، ونافع، والكسائي: يصدون، بضم الصاد، أي يعرضون عن الحق من أجل ضرب المثل. وقرأ ابن عباس، وابن جبير، والحسن، وعكرمة، وباقي السبعة: بكسرها، أي يصيحون ويرتفع لهم حمية بضرب المثل. وروي: ضم الصاد، عن علي، وأنكرها ابن عباس، ولا يكون إنكاره إلا قبل بلوغه تواترها. وقرأ الكسائي، والفراء: هما لغتان بمعنى: مثل يعرشون ويعرشون.
* (وقالوا ءأالهتنا خير أم هو) *: خفف الكوفيون الهمزتين، وسهل باقي السبعة الثانية بين بين. وقرأ ورش في رواية أبي الأزهر: بهمزة واحدة على مثال الخبر، فاحتمل أن تكون همزة الاستفهام محذوفة لدلالة أم عليها، واحتمل أن يكون خبرا محضا. حكوا أن آلهتهم خير، ثم عن لهم أن يستفهموا، على سبيل التنزل من الخبر إلى الاستفهام المقصود به الإفحام، وهذا الاستفهام يتضمن أن آلهتهم خير من عيسى. * (ما ضربوه لك إلا جدلا) *: أي ما مثلوا هذا التمثيل إلا لأجل الجدل والغلبة والمغالطة، لا لتمييز الحق واتباعه. وانتصب جدلا على أنه مفعول من أجله، وقيل: مصدر في موضع الحال. وقرأ ابن مقسم: إلا جدالا؛ بكسر الجيم. وألف خصمون: شديدو الخصومة واللجاج؛ وفعل من أبنية المبالغة نحو: هدى. والظاهر أن الضمير في أم هو لعيسى، لتتناسق الضمائر في قوله: * (إن هو إلا عبد) *. وقال قتادة: يعود على النبي صلى الله عليه وسلم). * (أنعمنا عليه) * بالنبوة وشرفناه بالرسالة. * (وجعلناه مثلا) * أي خبرة عجيبة، كالمثل * (لبنى إسراءيل) *، إذ خلق من غير أب، وجعل له من إحياء الموتى وإبراء الأكمة والأبرص والأسقام كلها، ما لم يجعل لغيره في زمانه. وقيل: المنعم عليه هو محمد صلى الله عليه وسلم). * (ولو نشاء لجعلنا منكم ملئكة فى الارض) *، قال بعض النحويين: من تكون للبدل، أي لجعلنا بدلكم ملائكة، وجعل من ذلكم قوله تعالى: * (ياأيها الذين ءامنوا ما لكم) *، أي بدل الآخرة، وقول الشاعر:
* أخذوا المخاض من الفصيل غلية * ظلما ويكتب للأمير أفالا * أي بدل الفصيل، وأصحابنا لا يثبتون لمن معنى البدلية، ويتأولون ما ورد ما يوهم ذلك. قال ابن عطية: لجعلنا بدلا منكم. وقال الزمخشري: ولو نشاء، لقدرتنا على عجائب الأمور وبدائع الفطر، لجعلنا منكم: لولدنا منكم يا رجال ملائكة يخلفونكم في الأرض، كما يخلفكم أولادكم؛ كما ولدنا عيسى من أنثى من غير فحل، لتعرفوا تميزنا بالقدرة الباهرة، ولتعلموا أن الملائكة أجسام لا تتولد إلا من أجسام، وذات القديم متعالية عن ذلك. انتهى، وهو تخريج حسن.
(٢٥)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 ... » »»