تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٨ - الصفحة ١٧
المذكورة في علم النحو، وهذا لا ينفيه البصريون. وقرأ الجمهور: نقيض، بالنون؛ وعلي، والسلمي، والأعمش، ويعقوب، وأبو عمرو: بخلاف عنه؛ وحماد عن عاصم، وعصمة عن الأعمش، وعن عاصم، والعليمي عن أبي بكر: بالياء، أي يقبض الرحمن؛ وابن عباس: يقبض مبنيا للمفعول. * (له شيطانا) *: بالرفع، أي ييسر له شيطان ويعدله، وهذا عقاب على الكفر بالحتم وعدم الفلاح. كما يقال: إن الله يعاقب على المعصية بالتزايد من السيئات. وقال الزمخشري: يخذله، ويحل بينه وبين الشياطين، كقوله: * (وقيضنا لهم قرناء) * * (ألم تر أنا أرسلنا الشياطين) *. انتهى، وهو على طريقة الاعتزال. والظاهر أن ضمير النصب في * (وإنهم ليصدونهم) * عائد على من، على المعنى أعاد أولا على اللفظ في إفراد الضمير، ثم أعاد على المعنى. والضمير في يصدونهم عائد على شيطان وإن كان مفردا، لأنه مبهم في جنسه، ولكل عاش شيطان قرين، فجاز أن يعود الضمير مجموعا. وقال ابن عطية: والضمير في قوله: وإنهم، عائد على الشيطان، وفي: ليصدونهم، عائد على الكفار. انتهى. والأولى ما ذكرناه لتناسق الضمائر في وإنهم، وفي ليصدونهم، وفي ويحسبون، لمدلول واحد، كأن الكلام: وأن العشاة ليصدونهم الشياطين عن السبيل، أي سبيل الهدى والفوز، ويحسبون: أي الكفار.
وقرأ أبو جعفر، وشيبة، وقتادة، والزهري، والجحدري، وأبو بكر، والحرميان: حتى إذا جاآنا، على التثنية، أي العاشي والقرين إعادة على لفظ من والشيطان، وإن كان من حيث المعنى صالحا للجمع. وقرأ الأعمش، والأعرج، وعيسى، وابن محيصن، والإخوان: جاءنا على الإفراد، والضمير عائد على لفظ من أعاد أولا على اللفظ، ثم جمع على المعنى، ثم أفرد على اللفظ؛ ونظير ذلك: * (ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا يدخله جنات تجرى من تحتها الانهار خالدين فيها أبدا قد أحسن الله له رزقا) *: أفرد أولا ثم جمع في قوله: * (خالدين) *، ثم أفرد في قوله: * (له رزقا) *. روى أنهما يجعلان يوم البعث في سلسلة، فلا يفترقان حتى يصيرهما الله إلى النار قال، أي الكافر للشيطان: * (قال ياليت بيني وبينك بعد المشرقين) *. تمنى لو كان ذلك في الدنيا حتى لا يصده عن سبيل الله، أو تمنى ذلك في الآخرة، وهو الظاهر، لأنه جواب إذا التي للاستقبال، أي مشرقي الشمس: مشرقها في أقصر يوم من السنة، ومشرقها في أطول يوم من السنة، قاله ابن السائب، أو بعد المشرق، أو المغرب غلب المشرق فثناهما، كما قالوا: العمران في أبي بكر وعمر، والقمران في الشمس والقمر، والموصلان في الجزيرة والموصل، والزهدمان في زهدم وكردم، والعجاجان في رؤبة والعجاج، والأبوان في الأب والأم، وهذا اختيار الفراء والزجاج، ولم يذكره الزمخشري. قال: فإن قلت: فما بعد المشرقين؟ قلت: تباعدهما، والأصل بعد المشرق من المغرب، والمغرب من المشرق، فلما غلب وجمع المفترقين بالتثنية؛ أضاف البعد إليهما. انتهى. وقيل: بعد المشرقين من المغربين، واكتفى بذكر المشرقين. وكأنه في هذا القول يريد مشرقي الشمس والقمر ومغربيهما. * (فبئس القرين) *: مبالغة منه في ذم قرينه، إذا كان سبب إيراده النار. والمخصوص بالذم محذوف، أي فبئس القرين أنت. * (ولن ينفعكم اليوم) *: حكاية حال يقال لهم يوم القيامة، وهي مقالة موحشة حرمتهم روح التأسي، لأنه وقفهم بها على أنه لا ينفعهم التأسي لعظم المصيبة وطول العذاب واستمراره مدته، إذ التأسي راحة كل مصاب في الدنيا في الأغلب. ألا ترى إلى قول الخنساء:
* ولولا كثرة الباكين حولي * على إخوانهم لقتلت نفسي * * وما يبكون مثل أخي ولكن * أعزي النفس عنه بالتأسي * فهذا التأسي قد كفاها مؤنة قتل النفس، فنفى الله عنهم الانتفاع بالتأسي؛ وفي ذلك تعذيب لهم ويأس من كل
(١٧)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 ... » »»