تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٨ - الصفحة ١٤
عقبه لعلهم يرجعون) *، فقال: بل متعتهم بما متعتهم به من طول العمر والسعة في الرزق، حتى شغلهم ذلك عن كلمة التوحيد. وأراد بذلك الإطناب في تعييرهم، لأنه إذا متعهم بزيادة النعم، وجب عليهم أن يجعلوا ذلك سببا في زيادة الشكر والثبات على التوحيد والإيمان، لا أن يشركوا به ويجعلوا له أندادا، فمثاله: أن يشكو الرجل إساءة من أحسن إليه، ثم يقبل على نفسه فيقول: أنت السبب في ذلك بمعروفك وإحسانك، وغرضه بهذا الكلام توبيخ المسئ لا تقبيح فعله. فإن قلت: قد جعل مجيء الحق والرسول غاية للتمتيع، ثم أردفه قوله: * (ولما جاءهم الحق قالوا هاذا سحر) *، فما طريقة هذا النظم ومؤداه؟ قلت: المراد بالتمتيع: ما هو سبب له، وهو اشتغالهم بالاستمتاع عن التوحيد ومقتضياته. فقال عز وعلا: بل اشتغلوا عن التوحيد * (حتى جاءهم الحق ورسول مبين) *، فخيل بهذه الغاية أنهم تنبهوا عندها عن غفلتهم لاقتضائها التنبه.
ثم ابتدأ قصتهم عند مجيء الحق فقال: * (ولما جاءهم الحق) *، جاءوا بما هو شر من غفلتهم التي كانوا عليها، وهو أن ضموا إلى شركهم معاندة الحق، ومكابرة الرسول ومعاداته، والاستخفاف بكتاب الله وشرائعه، والإصرار على أفعال الكفرة، والاحتكام على حكمة الله في تخير محمد صلى الله عليه وسلم) من أهل زمانه بقولهم: * (لولا نزل هاذا القرءان على رجل من القريتين عظيم) *، وهي الغاية في تشويه صورة أمرهم. انتهى، وهو حسن لكن فيه إسهاب. والضمير في: وقالوا، لقريش، كانوا قد استبعدوا أن يرسل الله من البشر رسولا، فاستفاض عندهم أمر إبراهيم وموسى وعيسى، وغيرهم من الرسل صلى الله عليهم. فلما لم يكن لهم في ذلك مدفع، ناقضوا فيما يخص محمدا صلى الله عليه وسلم) فقالوا: لم كان محمدا، ولم يكن القرآن ينزل على رجل من القريتين عظيم؟ أشاروا إلى من عظم قدره بالسن والقدم والجاه وكثرة المال. وقرئ: على رجل، بسكون الجيم. من القريتين: أي من إحدى القريتين. وقيل: من رجل القريتين، وهما مكة والطائف. قال ابن عباس: والذي من مكة: الوليد بن المغيرة المخزومي، ومن الطائف: حبيب بن عمرو بن عمير الثقفي. وقال مجاهد: عتبة بن ربيعة، وكنانة بن عبد ياليل. وقال قتادة: الوليد بن المغيرة، وعروة بن مسعود الثقفي. قال قتادة: بلغنا أنه لم يبق فخذ من قريش إلا ادعاه، وكان الوليد بن المغيرة يسمى ريحانة قريش، وكان يقول: لو كان ما يقول محمد حقا لنزل علي أو على ابن مسعود، يعني عروة بن مسعود، وكان يكنى أبا مسعود.
* (أهم يقسمون رحمة ربك) *؟ فيه توبيخ وتعجيب من جهلهم، كأنه قيل: على اختيارهم وإرادتهم تقسم الفضائل من النبوة وغيرها. ثم في إضافته في قوله: * (رحمة ربك) *، تشريف له صلى الله عليه وسلم)، وأن هذه الرحمة التي حصلت لك ليست إلا من ربك المصلح لحالك والمربيك. ثم أخبر تعالى أنه هو الذي قسم المعيشة بينهم، فلم يحصل لأحد إلا ما قسمه تعالى. وإذا كان هو الذي تولى ذلك، وفاوت بينهم، وذلك في الأمر الفاني، فكيف لا يتولى الأمر الخطير، وهو إرسال من يشاء، فليس لكم أن تتخيروا من يصلح لذلك، بل أنتم عاجزون عن تدبير أموركم. وقرأ الجمهور: معيشتهم، على الإفراد؛ وعبد الله، والأعمش، وابن عباس، وسفيان: معائشهم، على الجمع. والجمهور: سخريا، بضم السين؛ وعمرو بن ميمون، وابن محيصن؛ وابن أبي ليلى، وأبو رجاء، والوليد بن مسلم، وابن عامر: بكسرها، وهو من التسخير، بمعنى: الاستعباد والاستخدام، ليرتفق بعضهم ببعض ويصلوا إلى منافعهم. ولو تولى كل واحد جميع أشغاله بنفسه، ما أطاق ذلك وضاع وهلك. ويبعد أن يكون سخريا هنا من الهزء، وقد قال بعضهم: أي يهزأ الغني بالفقير. وفي قوله: * (نحن قسمنا) *، تزهيد في الإكباب على طلب الدنيا، وهون على التوكل على الله. وقال مقاتل: فاضلنا بينهم، فمن رئيس ومرؤوس. وقال قتادة: تلقى ضعيف القوة، قليل الحيلة، غني اللسان، وهو مبسوط له؛ وتلقى شديد الحيلة، بسيط اللسان، وهو مقتر عليه. وقال الشافعي، رحمه الله
(١٤)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 ... » »»