تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٧ - الصفحة ٢٥٥
ذلك الشرع. وقال الزمخشري: هي صور الملائكة والنبين والصالحين، كانت تعمل في المساجد من نحاس وصفر وزجاج ورخام، ليراها الناس، فيعبدوا نحو عبادتهم، وهذا مما يجوز أن يختلف فيه الشرائع، لأنه ليس من مقبحات الفعل، كالظلم والكذب. وعن أبي العالية: لم يكن اتخاذ الصور إذ ذاك محرما، أو صورا محذوفة الرؤوس. انتهى، وفيه بعض حذف. وقيل: التماثيل طلسمات، فيعمل تمثالا للتمساح، أو للذباب، أو للبعوض، ويأمر أن لا يتجاوز ذلك الممثل به ما دام ذلك التمثال والتصوير حراما في شريعتنا. وقد ورد تشديد الوعيد على المصورين، ولبعض العلماء استثناء في شيء منها. وفي حديث سهل بن حنيف: لعن الله المصورين، ولم يستثن عليه الصلاة والسلام. وحكى مكي في الهداية أن قوما أجازوا التصوير، وحكاه النحاس عن قوم واحتجوا بقوله: * (وتماثيل) *، قاله ابن عطية، وما أحفظ من أئمة العلم من يجوزه. وقرئ: * (كالجواب) * بلاياء، وهو الأصل، اجتزاء بالكسرة، واجراء الألف واللام مجرى ما عاقبها، وهو التنوين، وكما يحذف مع التنوين يحذف مع ما عاقبه، وهو أل. و * (* الراسيات) *: الثابتات على الأثافي، فلا تنقل ولا تحمل لعظمها. وقدمت المحاريب على التماثيل، لأن النقوش تكون في الأبنية. وقدم الجفان على القدور، لأن القدور آلة الطبخ، والجفان آلة الأكل، والطبخ قبل الأكل، لما بين الأبنية الملكية. وأراد بيان عظمة السماط الذي يمد في تلك الدور، وأشار إلى الجفان لأنها تكون فيها، والقدور لا تكون فيها ولا تحضر هناك، ولهذا قال: * (وقدور رسيات) *. ولما بين حال الجفان، سرى الذهن إلى عظمة ما يطبخ فيه، فذكر القدور للمناسبة، وذكر في حق داود اشتغاله بآلة الحرب لاحتياجه إلى قتال الأعداء، وفي حق سليمان المحاريب والتماثيل، لأنه كان ملكا ابن ملك، قد وطدله أبوه الملك، فكانت حاله حالة سلم، إذ لم يكن أحد يقدر على محاربته.
وقال عقب: * (أن اعمل سابغات) *، و * (اعملوا * صالحا) *، وعقب ما يعلمه الجن: * (اعلموا * ءال * داوود * شاكرا) *، إشارة إلى أن الإنسان لا يستغرق في الدنيا ولا يلتفت إلى زخارفها، وأنه يجب أن يعمل صالحا، * (اعلموا * ءال * داوود) *. وقيل: مفعول اعلموا محذوف، أي اعلموا الطاعات وواظبوا عليها شكرا لربكم على ما أنعم به عليكم، فقيل: انتصب شكرا على الحال، وقيل: مفعول من أجله، وقيل: مفعول له باعملوا، أي اعلموا اعملا هو الشكر، كالصلاة والصيام والعبادات كلها في أنفسها هي الشكر إذا سدت مسدة، وقيل: على المصدر لتضمينه اعلموا اشكروا بالعمل لله شكرا. روي أن مصلى آل داود لم يخل قط من قائم يصلي ليلا ونهارا، وكانوا يتناوبونه. وكان سليمان، عليه السلام، يأكل الشعير، ويطعم أهله الخشكار، والمساكين الدرمك، وما شبع قط، فقيل له في ذلك، فقال: أخاف إن شبعت أن أنس الجياع. و * (الشكور) *: صيغة مبالغة، وأريد به الجنس. قال ابن عباس: الشكور: من يشكر على أحواله كلها. وقال السدي: من يشكر على الشكر. وقيل: من يرى عجزه عن الشكر، وهذه الجملة تحتمل أن تكون خطابا لآل داود، وهو الظاهر، وأن تكون خطابا للرسول صلى الله عليه وسلم)، وفيها تنبيه وتحريض على الشكر.
* (فلما قضينا عليه الموت) *: أي أنفذنا عليه ما قضينا عليه في الأزل من الموت، وأخرجناه إلى حيز الوجود. وجواب لما النفي الموجب، وهذا يدل على أن لما حرف لا ظرف، خلافا لمن زعم ذلك، لأنه لو كان ظرفا لكان الجواب هو العامل وما دخلت عليه، وهي نافية، ولا يعمل ما قبلها فيما بعدها، وقد مضى لنا نظير هذا في يوسف في قوله: * (ولما دخلوا
(٢٥٥)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 250 251 252 253 254 255 256 257 258 259 260 ... » »»