تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٧ - الصفحة ٢٤٤
في نفسه غير مستقيم، فكيف صح بها التمثيل على المحال؟ وما مثال هذا إلا أن تشبه شيئا، والمشبه به غير معقول. قلت: الممثل به في الآية، وفي قولهم: لو قيل للشحم أين تذهب؟ وفي نظائره مفروض، والمفروض أن يتخيل في الذهن. كما أن المحققات مثلت حال التكليف في صعوبته وثقل محمله بحال المفروض، لو عرضت على السماوات والأرض والجبال * (فأبين أن يحملنها وأشفقن منها) *. انتهى.
وقال أيضا: إن هذه الأجرام العظام قد انقادت لأمر الله انقياد مثلها، وهو ما تأتي من الجمادات، حيث لم يمتنع على مشيئته إيجادا وتكوينا وتسوية على هيئات مختلفة وأشكال متنوعة. كما قال: * (قالتا أتينا طائعين) *. وأما الإنسان، فلم يكن حاله فيما يصح منه من الانقياد لأوامر الله ونواهيه، وهو حيوان إن صالح للتكليف، مثل حال تلك الجمادات فيما يصح منها ويليق بها من الانقياد. والمراد بالأمانة: الطاعة، لأنها لازمة للوجود. كما أن الأمانة لازمة للأداء، وعرضها على الجمادات وإباؤها وإشفاقها مجاز. وحمل الأمانة من قولك: فلان حامل للأمانة ومحتمل لها، يريد أنه لا يؤديها إلى صاحبها حتى تزول عن ذمته ويخرج عن عهدتها، لأن الأمانة كأنها راكبة للمؤتمن عليها، وهو حامل لها. ألا تراهم يقولون: ركبته الديون؟ ولي عليه حق؟ فأبين أن لا يؤدونها، وأبى الإنسان أن لا يكون محتملا لها لا يؤديها. ثم وصفه بالظلم لكونه تاركا لأداء الأمانة، وبالجهل لخطئه ما يسعده مع تمكنه منه وهو أداؤها. انتهى، وفيه بعض حذف.
وقال قوم: الآية من المجاز، أي إذا قايسنا ثقل الأمانة بقوة السماوات والأرض والجبال، رأيتهما أنهما لا تطيقها، وأنها لو تكلمت، لأبتها وأشفقت عنها؛ فعبر عن هذا المعنى بقوله: * (إنا عرضنا) * الآية، وهذا كما تقول: (عرضت الحمل على البعير فأباه، وأنت تريد بذلك مقارنة قوته بثقل الحمل، فرأيتها تقصر عنه؛ ونحوه قول ابن بحر) معنى عرضنا: عارضناها وقابلناها بها. * (فأبين أن يحملنها) *: أي قصرن ونقص عنها، كما تقول: أبت الصنجة أن تحمل ما قابلها. * (وحملها الإنسان) *، قال ابن عباس، وابن جبير: التزم القيام بحقها، والإنسان آدم، وهو في ذلك ظلوم نفسه، جهول بقدر ما دخل فيه. وقال ابن عباس: ما تم له يوم حتى أخرج من الجنة. وقال الضحاك، والحسن: وحملها معناه: خان فيها، والإنسان الكافر والمنافق والعاصي على قدره. وقال ابن مسعود، وابن عباس أيضا: ابن آدم قابيل الذي قتل أخاه هابيل، وكان قد تحمل لأبيه أمانة أن يحفظ الأهل بعده، وكان آدم مسافرا عنهم إلى مكة، في حديث طويل ذكره الطبري. وقال ابن إسحاق: عرض الأمانة: وضع شواهد الوحدانية في المصنوعات. والحمل: الخيانة، كما تقول: حمل خفي واحتمله، أي ذهب به. قال الشاعر:
* إذا أنت لم تبرح تؤدي أمانة * وتحمل أخرى أخرجتك الودائع انتهى. وليس وتحمل أخرى نصفا في الذهاب بها، بل يحتمل لأنك تتحمل أخرى، فتؤدي واحدة وتتحمل أخرى، فلا تزال دائما ذا أمانات، فتخرج إذ ذاك.
* واللام في * (ليعذب) * لام الصيرورة، لأنه لم يحملها لأن يعذب، لكنه حملها فآل الأمر إلى أن يعذب من نافق وأشرك، ويتوب على من آمن. وقال الزمخشري: لام التعليل على طريق المجاز، لأن نتيجة حمل الأمانة العذاب، كما أن التأديب في: ضربته للتأديب، نتيجة الضرب. وقرأ الأعمش: فيتوب، يعني بالرفع، بجعل العلة قاصرة على فعل الحامل، ويبتدىء ويتوب. ومعنى قراءة العامة: ليعذب الله حامل الأمانة ويتوب على غيره ممن لم يحملها، لأنه إذا ثبت على أن الواو في وكان ذلك نوعان من عذاب القتال. انتهى. وذهب صاحب اللوامح أن الحسن قرأ ويتوب بالرفع.
(٢٤٤)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 239 240 241 242 243 244 245 246 247 248 249 ... » »»