تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٧ - الصفحة ٢٥٦
من حيث أمرهم أبوهم ما كان يغنى عنهم من الله من شىء) *. فالضمير في * (دلهم) * عائد على الجن الذين كانوا يعملون له، وكان سليمان قد أمر الجن ببناء صرح له، فبنوه له. ودخله مختليا ليصفو له يوم من الدهر من الكدر، فدخل عليه شاب فقال له: كيف دخلت علي بغير إذن؟ فقال: إنما دخلت بإذن، قال: ومن أذن لك؟ قال: رب هذا الصرح. فعلم أنه ملك الموت أتى بقبض روحه، فقال: سبحان الله، هذا اليوم الذي طلبت فيه الصفا، فقال له: طلبت ما لم يخلق، فاستوثق من الاتكاء على العصا، فقبض روحه، وبقيت الجن تعمل على عادتها. وكان سليمان قصد تعمية موته، لأنه كان بقي من تمام بناء المسجد عمل سنة، فسأل الله تمامها على يد الإنس والجن، وكان يخلو بنفسه الشهرين والثلاثة، فكانوا يقولون: إنه يتحنث. وقيل: إن ملك الموت أعلمه أنه بقي من حياته ساعة، فدعا الشياطين فبنوا له الصرح، وقام يصلي متكئا على عصاه، فقبض روحه وهو متكئ عليها. وكانت الشياطين تجتمع حول محرابه، فلا ينظر أحد منهم إليه في صلاته إلا احترق، فمر واحد منهم فلم يسمع صوته، ثم رجع فلم يسمع، فنظر فإذا هو قد خر ميتا، وكأن عمره ثلاثا وخمسين سنة. ملك بعد موت أبيه وهو ابن ثلاث عشرة سنة، وكان أبوه قد أسس بنيان المسجد موضع بساط موسى، فمات قبل أن يتمه، ووصى به ابنه، فأمر الشياطين بإتمامه، ومات قبل تمامه.
و * (دابة الارض تأكل) *: هي سوسة الخشب، وهي الأرضة. وقيل: ليست سوسة الخشب، لأن السوسة ليست من دواب الأرض، بل هذه حيوان من الأرض شأنه أن يأكل الخشب، وذلك موجود. وقالت فرقة، منها أبو حاتم: الأرض هنا مصدر أرضت الأبواب، والخشب أكلتها الأرضة فكأنه قال: دابة الأكل الذي هو بتلك الصورة. وإذا كان الأرض مصدرا، كان فعله أرضت الدابة الخشب تأرضه أرضا فأرض بكسر الراء نحو: جدعت أنفه فجدع. ويقال: إنه مصدر لفعل مفتوح العين، قراءة ابن عباس. والعباس بن الفضل: الأرض بفتح الراء، لأن مصدر فعل المطاوع لفعل يكون على فعل نحو: جدع أنفه جدعا وأكلت الأسنان أكلا، مطاوع أكلت. وقيل: الأرض بفتح الراء جمع أرضه، وهو من إضافة العام إلى الخاص، لأن الدابة أعم من الأرض. وقراءة الجمهور: بسكون الراء، فالمتبادر أنها الأرض المعروفة، وتقدم أنها مصدر لأرضت الدابة الخشب. وتأكل: حال، أي أكلت منسأته، وهي حال مصاحبة. وتقدم أن المنسأة هي العصا، وكانت فيما روي من خرنوب، وذلك أنه كان يتعبد في بيت المقدس، فتنبت له في محرابه كل سنة شجرة تخبره بمنافعها فيأمر فتقلع، ويتصرف في منافعها، وتغرس لتتناسل. فلما قرب موته، نبتت شجرة وسألها فقالت: أنا الخرنوب، خرجت لخراب ملكك، فعرف أنه حضر أجله، فاستعد واتخذ منها عصا واستدعى بزاد سنة، والجن تتوهم أنه يتغذى بالليل. وروي أن سليمان كان في قبة، وأوصى بعض أهله بكتمان موته عن الإنس والجن سنة ليتم البناء الذي بدىء في زمن داود، فلما مضى لموته سنة، خر عن العصا ونظر إلى مقدار ما تأكله الأرضة يوما وقيس عليه، فعلم أنها أكلت العصا منه سنة. وقرأ نافع، وأبو عمرو، وجماعة: منساته بألف، وأصله منسأته، أبدلت الهمزة ألفا بدلا غير قياسي. وقال أبو عمر: وأنا لا أهمزها لأني لا أعرف لها اشتقاقا، فإن كانت مما لا تهمز، فقد احتطت، وإن كانت تهمز، فقد يجوز لي ترك الهمزة فيما يهمز. وقرأ ابن ذكوان وجماعة، منهم بكار والوليدان بن عتبة وابن مسلم: منسأته، بهمزة ساكنة، وهو من تسكين التحريك تخفيفا، وليس بقياس. وضعف النحاة هذه القراءة، لأنه يلزم فيها أن يكون ما قبل التأنيث ساكنا غير الفاء. وقيل: قياسها التخفيف بين بين، والراوي لم يضبط، وأنشد هارون بن موسى الأخفش الدمشقي شاهدا على سكون هذه القراءة قول الراجز:
(٢٥٦)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 251 252 253 254 255 256 257 258 259 260 261 ... » »»