تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٧ - الصفحة ٢٥٢
(سقط: تأكل منسأته فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين) مناسبة قصة داود وسليمان، عليهما السلام، لما قبلها، هي أن أولئك الكفار أنكروا البعث لاستحالته عندهم، فأخبروا بوقوع ما هو مستحيل في العادة مما لا يمكنهم إنكاره، إذ طفحت ببعضه أخبارهم وشعراؤهم على ما يأتي ذكره، إن شاء الله، من تأويب الجبال والطير مع داود، والإنة الحديد، وهو الجرم المستعصي، وتسخير الريح لسليمان، وإسالة النحاس له، كما ألان الحديد لأبيه، وتسخير الجن فيما شاء من الأعمال الشاقة.
وقيل: لما ذكر من ينيب من عباده، ذكر من جملتهم داود، كما قال: * (فاستغفر ربه وخر راكعا وأناب) *، وبين ما آتاه الله على إنابته فقال: * (ولقد ءاتينا * داوود * منا فضلا) *، وقيل: ذكر نعمته على داود وسليمان، عليهما السلام، احتجاجا على ما منح محمدا صلى الله عليه وسلم): أي لا تستبعدوا هذا، فقد تفضلنا على عبيدنا قديما بكذا وكذا. فلما فرغ التمثيل لمحمد، عليه السلام، رجع التمثيل لهم بسبأ، وما كان من هلاكهم بالكفر والعتو. انتهى. والفضل الذي أوتي داود: الزبور، والعدل في القضاء، والثقة بالله، وتسخير الجبال، والطير، وتليين الحديد، أقوال. * (من جبال) *: هو إضمار القول، إما مصدر، أي قلنا * (من جبال) *، فيكون بدلا من * (فضلا) *، وأما فعلا، أي قلنا، فيكون بدلا من * (ءاتينا) *، وإما على الاستئناف، أي قلنا * (من جبال) *، وجعل الجبال بمنزلة العقلاء الذين إذا أمرهم أطاعوا وأذعنوا، وإذا دعاهم سمعوا وأجابوا، إشعارا بأنه ما من حيوان وجماد وناطق وصامت إلا وهو منقاد لمشيئته، غير ممتنع على إرادته، ودلالة على عزة الربوبية وكبرياء الألوهية، حيث نادى الجبال وأمرها. وقرأ الجمهور: * (أوبى) *، مضاعف آب يؤوب، ومعناه: سبحي معه، قاله ابن عباس وقتادة وابن زيد. وقال مؤرج، وأبو ميسرة: أوبي: سبحي، بلغة الحبشة، أي يسبح هو وترجع هي معه التسبيح، أي تردد بالذكر، وضعف الفعل للمبالغة، قاله ابن عطية. ويظهر أن التضعيف للتعدية، فليس للمبالغة، إذا أصله آب، وهو لازم بمعنى: رجع اللازم فعدى بالتضعيف، إذ شرحوه بقولهم: رجعي معه التسبيح.
قال الزمخشري: ومعنى تسبيح الجبال: أن الله يخلق فيها تسبيحا، كما خلق الكلام في الشجرة، فيسمع منها ما يسمع من المسبح، معجزة لداود. قيل: كان ينوح على ذنبه بترجيع وتحزين، وكانت الجبال تساعده على نوحه بأصدائها والطير بأصواتها. انتهى. وقوله: كما خلق الكلام في الشجرة، يعني أن الذي يسمع موسى هو مما خلقه الله في الشجرة من الكلام، لا أنه كلام الله حقيقة، وهو مذهب المعتزلة. وأما قوله: تساعده الجبال على نوحه بأصدائها فليس بشيء، لأن الصدى ليس بصوت الجبال حقيقة، والله تعالى نادى الجبال وأمرها بأن تؤوب معه، والصدى لا تؤمر الجبال بأن تفعله، إذ ليس فعلا لها، وإنما هو من آثار صوت المتكلم على ما يقوم عليه البرهان. وقال الحسن: معنى * (أوبى معه) *: سيري معه أين سار، والتأويب: سير النهار. كان الإنسان يسير الليل ثم يرجع للسير بالنهار، أي يردده، وقال تميم بن مقبل:
* لحقنا بحي أوبوا السير بعدما * رفعنا شعاع الشمس والطرف تجنح * وقال آخر:
* يومان يوم مقامات وأندية * ويوم سير إلى الأعداء تأويب * وقيل: أوبي: تصرفي معه على ما يتصرف فيه. فكان إذا قرأ الزبور، صوتت الجبال معه وأصغت إليه الطير، فكأنها فعلت ما فعل. وقرأ ابن عباس، والحسن، وقتادة، وابن أبي إسحاق: أوبي، أمر من أوب: أي رجعي معه في التسبيح، أو في
(٢٥٢)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 247 248 249 250 251 252 253 254 255 256 257 ... » »»