مانع من قبول نفقاتهم وهو الكفر، وأتبعه بما هو ناشىء عن الكفر ومستلزم له وهو دليل عليه. وذلك هو إتيان الصلاة وهم كسالى، وإيتاء النفقة وهم كارهون. فالكسل في الصلاة وترك النشاط إليها وأخذها بالإقبال من ثمرات الكفر، فإيقاعها عندهم لا يرجون به ثوابا، ولا يخافون بالتفريط فيها عقابا. وكذلك الإنفاق للأموال لا يكرهون ذلك إلا وهم لا يرجون به ثوابا. وذكر من أعمال البر هذين العملين الجليلين وهما الصلاة والنفقة، واكتفى بهما وإن كانوا أفسد حالا في سائر أعمال البر، لأن الصلاة أشرف الأعمال البدنية، والنفقة في سبيل الله أشرف الأعمال المالية، وهما وصفان المطلوب إظهارهما في الإسلام، ويستدل بهما على الإيمان، وتعداد القبائح يزيد الموصوف بها ذما وتقبيحا. وقرأ الأخوان وزيد بن علي: أن يقبل بالياء، وباقي السبعة بالتاء، ونفقاتهم بالجميع، وزيد بن علي بالإفراد. وقرأ الأعرج بخلاف عنه: أن تقبل بالتاء من فوق نفقتهم بالإفراد. وفي هذه القراءات الفعل مبني للمفعول. وقرأت فرقة: أن نقبل منهم نفقتهم بالنون ونصب النفقة. قال الزمخشري: وقراءة السلمي أن نقبل منهم نفقاتهم على أن الفعل لله تعالى انتهى. والأولى أن يكون فاعل منع قوله: ألا أنهم أي كفرهم، ويحتمل أن يكون لفظ الجلالة أي: وما منعهم الله، ويكون إلا أنهم تقديره: إلا لأنهم كفروا. وأن تقبل مفعول ثان إما لوصول منع إليه بنفسه، وإما على تقدير حذف حرف الجر، فوصل الفعل إليه.
* (فلا * كارهون * فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحيواة الدنيا وتزهق أنفسهم) *: لما قطع رجاء المنافقين عن جميع منافع الآخرة، بين أن الأشياء التي يظنونها من باب منافع الدنيا جعلها الله تعالى أسبابا ليعذبهم بها في الدنيا أي: ولا يعجبك أيها السامع بمعنى لا يستحسن ولا يفتتن بما أوتوا من زينة الدنيا كقوله: * (ولا تمدن عينيك) * وفي هذا تحقير لشأن المنافقين. قال ابن عباس وقتادة ومجاهد والسدي وابن قتيبة: في الكلام تقديم وتأخير، والمعنى: فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم في الحياة الدنيا، إنما يريد الله ليعذبهم بها في الآخرة انتهى. ويكون إنما يريد الله ليعذبهم بها جملة اعتراض فيها تشديد للكلام وتقوية لانتفاء الإعجاب، لأن من كان مآل إتيانه المال والولد للتعذيب لا ينبغي أن تستحسن حاله ولا يفتتن بها، إلا أن تقييد الإيجاب المنهى عنه الذي يكون ناشئا عن أموالهم وأولادهم من المعلوم أنه لا يكون إلا في الحياة الدنيا، فنفى ذلك، كأنه زيادة تأكيد بخلاف التعذيب، فإنه قد يكون في الدنيا كما يكون في الآخرة، ومع أن التقديم والتأخير لخصه أصحابنا بالضرورة. وقال الحسن: الوجه في التعذيب إنه بما ألزمهم فيها من أداء الزكاة والنفقة في سبيل الله، فالضمير في قوله: بها، عائد في هذا القول على الأموال فقط. وقال ابن زيد وغيره: التعذيب هو مصائب الدنيا ورزاياها هي لهم عذاب، إذ لا يؤجرون عليها انتهى. ويتقوى هذا القول بأن تعذيبهم بإلزام الشريعة أعظم من تعذيبهم بسائر الرزايا، وذلك لاقتران الذلة والغلبة وأمر الشريعة لهم قاله: ابن عطية، وقد جمع الزمخشري هذا كله فقال: إنما أعطاهم ما أعطاهم للعذاب بأن عرضهم للمغنم والسبي، وبلاهم فيه بالآفات والمصائب، وكلفهم الإنفاق منه في أبواب الخير وهم كارهون له على رغم أنوفهم، وأذاقهم أنواع الكلف والمجاشم في جمعه واكتسابه وفي تربية أولادهم. وقيل: أموالهم التي ينفقونها فإنها لا تقبل منهم ولا أولادهم المسلمون، مثل عبد الله بن عبد الله بن أبي وغيره، فإنهم لا ينفعون آباءهم المنافقين حكاه القشيري. وقيل: يتمكن حب المال من قلوبهم، والتعب في جمعه، والوصل في حفظه، والحسرة على تخلفته عند من لا يحمده، ثم يقدم على ملك لا يعذره. وقدم الأموال على الأولاد لأنها كانت أعلق بقلوبهم، ونفوسهم أميل إليها، فإنهم كانوا يقتلون أولادهم خشية ذهاب أموالهم. قال تعالى: * (ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق) *.
قال الزمخشري: (فإن قلت): إن صح تعليق العذاب بإرادة الله تعالى، فما بال زهوق أنفسهم وهم كافرون؟ (قلت): المراد الاستدراج بالنعم كقوله تعالى: * (إنما نملى لهم ليزدادوا إثما) *