كأنه قيل: ويريد أن يديم عليهم نعمته إلى أن يموتوا وهم كافرون ملتهون بالتمتع عن النظر للعاقبة انتهى. وهو بسط كلام ابن عيسى وهو الرماني، وهما كلاهما معتزليان. قال ابن عيسى: المعنى إنما يريد الله أن يملي لهم ويستدرجهم ليعذبهم انتهى. وهي نزغة اعتزالية. والذي يظهر من حيث عطف وتزهق على ليعذب أن المعنى ليعذبهم بها في الحياة الدنيا وفي الآخرة، ونبه على عذاب الآخرة بعلته وهو زهوق أنفسهم على الكفر، لأن من مات كافرا عذب في الآخرة لا محالة. والظاهر أن زهوق النفس هنا كناية عن الموت. قال ابن عطية: ويحتمل أن يريد وتزهق أنفسهم من شدة التعذيب الذي يننالهم.
* (ويحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم ولاكنهم قوم يفرقون) *: أي لمن جملة المسلمين. وأكذبهم الله بقوله: وما هم منكم. ومعنى يفرقون: يخافون القتل. وما يفعل بالمشركين فيتظاهرون بالإسلام تقية، وهم يبطنون النفاق، أو يخافون اطلاع الله المؤمنين على بواطنهم فيحل بهم ما يحل بالكفار. ولما حقر تعالى شأن المنافقين وأموالهم وأولادهم عاد إلى ذكر مصالحهم وما هم عليه من خبث السريرة فقال: ويحلفون بالله على الجملة لا على التعيين، وهي عادة الله في ستر أشخاص العصاة.
* (لو يجدون * ملجأ * أو مغارات أو مدخلا لولوا إليه وهم يجمحون) *: لما ذكر فرق المنافقين من المؤمنين أخبر بما هم عليه معهم مما يوجبه الفرق وهو أنهم لو أمكنهم الهروب منهم لهربوا، ولكن صحبتهم لهم صحبة اضطرار لا اختيار. قال ابن عباس: الملجأ الحرز. وقال قتادة: الحصن. وقال السدي: المهرب. وقال الأصمعي: المكان الذي يتحصن فيه. وقال ابن كيسان: القوم يأمنون منهم. والمغارات جمع مغارة وهي الغار، ويجمع على غيران بني من غار يغور إذا دخل مفعلة للمكان كقولهم: مزرعة. وقيل: المغارة السرب تحت الأرض كنفق اليربوع.
وقرأ سعد بن عبد الرحمن بن عوف: مغارات بضم الميم، فيكون من أغار. قيل: وتقول العرب: غار الرجل وأغار بمعنى دخل، فعلى هذا يكون مغارات من أغار اللازم. ويجوز أن يكون من أغار المنقول بالهمزة من غار، أي أماكن في الجبال يغيرون فيها أنفسهم. وقال الزجاج: ويصح أن يكون من قولهم: جبل مغار أي مفتول. ثم يستعار ذلك في الأمر المحكم المبرم، فيجيء التأويل على هذا لو يجدون نصرة أو أمورا مرتبطة مشددة تعصمهم منكم أو مدخلا لولوا إليه. وقال الزمخشري ويجوز أن يكون من أغار الثعلب إذا أسرع، بمعنى مهارب ومغار انتهى. والمدخل قال مجاهد: المعقل يمنعهم من المؤمنين. وقال قتادة: السرب يسيرون فيه على خفاء. وقال الكلبي: نفقا كنفق اليربوع. وقال الحسن: وجها يدخلون فيه على خلاف الرسول. وقيل: قبيلة يدخلون فيها تحميهم من الرسول ومن المؤمنين. وقال الجمهور: مدخلا وأصله مدتخل، مفتعل من ادخل، وهو بناء تأكيد ومبالغة، ومعناه السرب والنفق في الأرض قاله: ابن عباس. بدىء أولا بالأعم وهو الملجأ، إذ ينطلق على كل ما يلجأ إليه الإنسان، ثم ثنى بالمغارات وهي الغيران في الجبال، ثم أتى ثالثا بالمدخل وهو النفق باطن الأرض. وقال الزجاج: المدخل قوم يدخلونهم في جملتهم. وقرأ الحسن، وابن أبي إسحاق، ومسلمة بن محارب، وابن محيصن، ويعقوب، وابن كثير بخلاف عنه: مدخلا بفتح الميم من دخل. وقرأ محبوب عن الحسن: مدخلا بضم الميم من أدخل. وروى ذلك عن الأعمش وعيسى ابن عمر. وقرأ قتادة، وعيسى بن عمر، والأعمش: مدخلا بتشديد الدال والخاء معا أصله متدخل، فأدغمت التاء في الدال. وقرأ أبي مندخلا بالنون من اندخل. قال:
ولا يدي في حميت السمن تندخل