تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٥ - الصفحة ٥٨
أصابهم به الرسول من الغنيمة وطابت به نفوسهم وإن قل نصيبهم، وقالوا: كفانا فضل الله تعالى وصنعه، وحسبنا ما قسم لنا سيرزقنا غنيمة أخرى، فسيؤتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم) أكثر مما آتانا اليوم، إنا إلى الله في أن يغنمنا ويخولنا فضله راغبون انتهى. وقال ابن عباس: راغبون فيما يمنحنا من الثواب ويصرف عنا من العقاب. وقال التبريزي: راغبون في أن يوسع علينا من فضله، فيغنينا عن الصدقة وغيرها مما في أيدي الناس. وقيل: ما آتاهم الله بالتقدير، ورسوله بالقسم انتهى. وأتى أولا بمقام الرضا وهو فعل قلبي يصدر عمن علم أنه تعالى منزه عن العتب والخطأ عليم بالعواقب، فكل قضائه صواب وحق، لا اعتراض عليه. ثم ثنى بإظهار آثار الوصف القلبي وهو الإقرار باللسان، فحسبنا ما رضي به. ثم أتى ثالثا بأنه تعالى ما داموا في الحياة الدنيا ماد لهم بنعمه وإحسانه، فهو إخبار حسن إذ ما من مؤمن إلا ونعم الله مترادفة عليه حالا ومآلا، إما في الدنيا، وإما في الآخرة. ثم أتى رابعا بالجملة المقتضية الالتجاء إلى الله لا إلى غيره، والرغبة إليه، فلا يطلب بالإيمان أخذ الأموال والرئاسة في الدنيا ولما كانت الجملتان متغايرتين وهما ما تضمن الرضا بالقلب، وما تضمن الإقرار باللسان، تعاطفتا. ولما كانت الجملتان الأخيرتان من آثار قولهم: حسبنا الله لم تتعاطفا، إذ هما كالشرح لقولهم: حسبنا الله، فلا تغاير بينهما.
* (*) * هذا وصف لحال المستقيمين في دينهم، أي رضوا قسمة الله ورسوله وقالوا: كفانا فضل الله، وعلقوا آمالهم بما سيؤتيه الله إياهم، وكانت رغبتهم إلى الله لا إلى غيره. وجواب لو محذوف تقديره: لكان خيرا لهم في دينهم ودنياهم. وكان ذلك الفعل دليلا على انتقالهم من النفاق إلى محض الإيمان، لأن ذلك تضمن الرضا بقسم الله، والإقرار بالله وبالرسول إذ كانوا يقولون: سيؤتينا الله من فضله ورسوله. وقيل: جواب لو هو قوله: وقالوا على زيادة الواو، وهو قول كوفي. قال الزمخشري: والمعنى: ولو أنهم رضوا ما أصابهم به الرسول من الغنيمة وطابت به نفوسهم وإن قل نصيبهم، وقالوا: كفانا فضل الله تعالى وصنعه، وحسبنا ما قسم لنا سيرزقنا غنيمة أخرى، فسيؤتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم) أكثر مما آتانا اليوم، إنا إلى الله في أن يغنمنا ويخولنا فضله راغبون انتهى. وقال ابن عباس: راغبون فيما يمنحنا من الثواب ويصرف عنا من العقاب. وقال التبريزي: راغبون في أن يوسع علينا من فضله، فيغنينا عن الصدقة وغيرها مما في أيدي الناس. وقيل: ما آتاهم الله بالتقدير، ورسوله بالقسم انتهى. وأتى أولا بمقام الرضا وهو فعل قلبي يصدر عمن علم أنه تعالى منزه عن العتب والخطأ عليم بالعواقب، فكل قضائه صواب وحق، لا اعتراض عليه. ثم ثنى بإظهار آثار الوصف القلبي وهو الإقرار باللسان، فحسبنا ما رضي به. ثم أتى ثالثا بأنه تعالى ما داموا في الحياة الدنيا ماد لهم بنعمه وإحسانه، فهو إخبار حسن إذ ما من مؤمن إلا ونعم الله مترادفة عليه حالا ومآلا، إما في الدنيا، وإما في الآخرة. ثم أتى رابعا بالجملة المقتضية الالتجاء إلى الله لا إلى غيره، والرغبة إليه، فلا يطلب بالإيمان أخذ الأموال والرئاسة في الدنيا ولما كانت الجملتان متغايرتين وهما ما تضمن الرضا بالقلب، وما تضمن الإقرار باللسان، تعاطفتا. ولما كانت الجملتان الأخيرتان من آثار قولهم: حسبنا الله لم تتعاطفا، إذ هما كالشرح لقولهم: حسبنا الله، فلا تغاير بينهما.
* (إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفى الرقاب والغارمين وفى سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله) *: لما ذكر تعالى من يعيب الرسول في قسم الصدقات بأنه يعطي من يشاء ويحرم من يشاء، أو يخص أقاربه، أو يأخذ لنفسه ما بقي. وكانوا يسألون فوق ما يستحقون، بين تعالى مصرف الصدقات، وأنه صلى الله عليه وسلم) إنما قسم على ما فرضه الله تعالى. ولفظه إنما إن كانت وضعت للحصر فالحصر مستفاد من لفظها، وإن كانت لم توضع للحصر فالحصر مستفاد من الأوصاف، إذ مناط الحكم بالوصف يقتضي التعليل به، والتعليل بالشيء يقتضي الاقتصار عليه. والظاهر أن مصرف الصدقات هؤلاء الأصناف. والظاهر أن العطف مشعر بالتغاير، فتكون الفقراء عين المساكين. والظاهر بقاء هذا الحكم للأصناف الثمانية دائما، إذ لم يرد نص في نسخ شيء منها. والظاهر أنه يعتبر في كل صنف منها ما دل عليه لفظه إن كان موجودا، والخلاف في كل شيء من هذه الظواهر. فأما أن مصرف الصدقات هؤلاء الأصناف، فذهب جماعة من الصحابة والتابعين إلى أنه يجوز أن يقتصر على بعض هؤلاء الأصناف، ويجوز أن يصرف إلى جميعها. فمن الصحابة: عمر، وعلي، ومعاذ، وحذيفة، وابن عباس، ومن التابعين النخعي، وعمر بن عبد العزيز، وأبو العالية، وابن جبير، قالوا: في أي صنف منها وضعتها أجزأتك. قال ابن جبير: لو نظرت إلى أهل بيت من المسلمين فقراء متعففين فخيرتهم بها كان أحب إلي. قال الزمخشري: وعليه مذهب أبي حنيفة قال غيره: وأبي يوسف، ومحمد، وزفر، ومالك. وقال جماعة من التابعين: لا يجوز الاقتصار على أحد هذه الأصناف منهم: زين العابدين علي بن الحسين، وعكرمة، والزهري، بل يصرف إلى الأصناف الثمانية. وقد كتب الزهري لعمر بن عبد العزيز: يفرقها على الأصناف الثمانية، وهو مذهب الشافعي قال: إلا المؤلفة، فإنهم انقطعوا. وأما أن الفقراء غير المساكين، فذهب جماعة من السلف إلى أن الفقير والمسكين سواء لا فرق بينهما في المعنى، وإن افترقا في الاسم، وهما صنف واحد سمي باسمين ليعطي سهمين نظرا لهم ورحمة. قال في التحرير: وهذا هو أحد قولي الشافعي. وذهب الجمهور إلى أنهما صنفان يجمعهما الإقلال والفاقة، واختلفوا فيما به الفرق. فقال الأصمعي وغيره منهم أحمد بن حنبل وأحمد بن عبيد الفقير: أبلغ فاقة. وقال غيره منهم أبو حنيفة، ويونس بن حبيب، وابن السكيت، وابن قتيبة المسكين: أبلغ فاقة، لأنه لا شيء له. والفقير من له بلغة من الشيء. وقال الضحاك: الفقراء هم من المهاجرين، والمساكين من لم يهاجر. وقال النخعي نحوه. وقال عكرمة: الفقراء من المسلمين، والمساكين من أهل الذمة. لا نقول لفقراء المسلمين مساكين. وروى عنه بالعكس حكاه مكي. وقال الشافعي في كتاب ابن المنذر: الفقير من لا مال له ولا حرفة، سائلا كان أو متعففا. والمسكين الذي له حرفة أو مال ولكن لا يغنيه ذلك سائلا كان أو غير سائل. وقال قتادة: الفقير الزمن المحتاج، والمسكين الصحيح المحتاج. وقال ابن عباس: والحسن، ومجاهد، والزهري، وابن
(٥٨)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 ... » »»