تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٥ - الصفحة ٥٤
إن لم أقاتل فألبسني برقعا انتهى.
* (قل أنفقوا طوعا أو كرها لن يتقبل منكم إنكم كنتم قوما فاسقين) *: قرأ الأعمش وابن وثاب: كرها بضم الكاف، ويعني: في سبيل الله ووجوه البر. قيل: وهو أمر ومعناه التهديد والتوبيخ. وقال الزمخشري: هو أمر في معنى الخبر كقوله تعالى: * (قل من كان فى الضلالة فليمدد له الرحمان مدا) * ومعناه لن يتقبل منكم أنفقتم طوعا أو كرها. ونحوه قوله تعالى: * (استغفر لهم أو لا تستغفر لهم) * وقوله: أسيىء بنا أو أحسني لا ملومة. أي لن يغفر الله لهم استغفرت لهم أو لا تستغفر لهم، ولا نلومك أسأت إلينا أم أحسنت انتهى. وعن بعضهم غير هذا بأن معناه الجزاء والشرط أي: إن تتفقوا طوعا أو كرها لم يتقبل منك، وذكر الآية وبيت كثير على هذا المعنى. قال ابن عطية: أنفقوا أمر في ضمنه جزاء، وهذا مستمر في كل أمر معه جزاء، والتقدير: إن تنفقوا لن نتقبل منكم. وأما إذا عرى الأمر من الجواب فليس يصحبه تضمن الشرط انتهى. ويقدح في هذا التخريج أن الأمر إذا كان فيه معنى الشرط كان الجواب كجواب الشرط، فعلى هذا يقتضي أن يكون التركيب فلن يتقبل بالفاء، لأن لن لا تقع جوابا للشرط إلا بالفاء، فكذلك ما ضمن معناه. ألا ترى جزمه الجواب في مثل اقصد زيدا يحسن إليك، وانتصب طوعا أو كرها على الحال، والطوع أن يكون من غير إلزام الله ورسوله، والكره إلزام ذلك. وسمى الإلزام كراها لأنهم منافقون، فصار الإلزام شاقا عليهم كالإكراه. أو يكون من غير إلزام من رؤسائكم، أو إلزام منهم لأنهم كانوا يحملونهم على الإنفاق لما يرون فيه من المصلحة.
والجمهور على أن هذه نزلت بسبب الجد بن قيس حين استأذن في القعود وقال: هذا مالي أعينك به. وقال ابن عباس: فيكون من إطلاق الجمع على الواحد أوله ولمن فعل فعله. فقد نقل البيهقي وغيره من الأئمة أنهم كانوا ثلاثة وثمانين رجلا، استثنى منهم الثلاثة الذين خلفوا وأهلك الباقون، ونفى التقبل إما كون الرسول لم يقبله منهم ورده، وإما كون الله لا يثيب عليه، وعلل انتفاء التقبل بالفسق. قال الزمخشري: وهو التمرد والعتو، والأولى أن يحمل على الكفر. قال أبو عبد الله الرازي: هذه إشارة إلى أن عدم القبول معلل بكونهم فاسقين، فدل على أن الفسق يؤثر في إزالة هذا المعنى. وأكد الجبائي ذلك بدليله المشهور في هذه المسألة، وهو أن الفسق يوجب الذم والعقاب الدائمين، والطاعة توجب المدح والثواب الدائمين، والجمع بينهما محال. فكان الجمع بين استحقاقهما محالا، وقد أزال الله هذه الشبهة بقوله: * (وما منعهم) * الآية وأن تصريح هذا اللفظ لا يؤثر في القول إلا الكفر. ودل ذلك على أن مطلق الفسق لا يحبط الطاعات، فنفى تعالى أن عدم القبول ليس معللا بعموم كونه فسقا، بل بخصوص وصفه وهو كون ذلك الفسق كفرا، فثبت أن استدلال الجبائي باطل انتهى. وفيه بعض تلخيص.
* (وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله ولا يأتون الصلواة إلا وهم كسالى ولا ينفقون) *.
ذكر السبب الذي هو بمفرده
(٥٤)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 ... » »»