تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٥ - الصفحة ٥٠
(قلت): لما كان قوله: ولو أرادوا الخروج معطيا معنى نفي خروجهم واستعدادهم للغزو. قيل: ولكن كره الله انبعاثهم، كأنه قيل: ما خرجوا ولكن تثبطوا عن الخروج لكراهة انبعاثهم، كما تقول: ما أحسن إلي زيد ولكن أساء إلي انتهى. وليست اة ية نظير هذا المثال، لأن المثال واقع فيه لكن بين ضدين، والآية واقع فيها لكن بين متفقين من جهة المعنى، والانبعاث الانطلاق والنهوض. قال ابن عباس: فثبطهم كسلهم وفتر نياتهم. وبنى وقيل للمفعول، فاحتمل أن يكون القول: أذن الرسول لهم في القعود، أو قول بعضهم لبعض إما لفظا وإما معنى، أو حكاية عن قول الله في سابق قضائه. وقال الزمخشري: جعل القاء الله تعالى في قلوبهم كراهة الخروج أمرا بالقعود. وقيل: هو من قول الشيطان بالوسوسة. قال: (فإن قلت): كيف جاز أن يوقع الله تعالى في نفوسهم كراهة الخروج إلى الغزو وهي قبيحة، وتعالى الله عن إلهام القبيح. (قلت): خروجهم كان مفسدة لقوله تعالى: * (لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا) * فكان إيقاع كراهة ذلك الخروج في نفوسهم حسنا ومصلحة انتهى. وهذا السؤال والجواب على طريقة الاعتزال في المفسدة والمصلحة، وهذا القول هو ذم لهم وتعجيز، وإلحاق بالنساء والصبيان والزني الذين شأنهم القعود والجثوم في البيوت، وهم القاعدون والخلفون والخوالف، ويبينه قوله تعالى: * (رضوا بأن يكونوا مع الخوالف) * والقعود هنا عبارة عن التخلف والتراخي كما قال:
* دع المكارم لا ترحل لبغيتها * واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي * * (لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولاوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم والله عليم بالظالمين) *: لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم) ضرب عسكره على ثنية الوداع، وضرب عبد الله بن أبي عسكره أسفل منها، ولم يكن بأقل العسكرين، فلما سار تخلف عنه عبد الله فيمن تخلف فنزلت بعرى الله ورسوله إلى قوله: وهم كارهون. وفيكم أي: في جيشكم أو في جملتكم. وقيل: في بمعنى مع. قال ابن عباس: الخبال الفساد ومراعاة إخماد الكلمة. وقال الضحاك: المكر والغدر. وقال ابن عيسى: الاضطراب. وقال الكلبي: الشر، وقاله: ابن قتيبة. وقيل: إيقاع الاختلاف والأراجيف، وتقدم شرح الخبال في آل عمران. وهذا الاستثناء متصل وهو مفرغ، إذ المفعول الثاني لزاد لم يذكر، وقد كان في هذه الغزوة منافقون كثير، ولهم لا شك خبال، فلو خرج هؤلاء لتألبوا فزاد الخبال. وقال الزمخشري: المستثنى منه غير مذكور، فالاستثناء من أعم العام الذي هو الشيء، فكان هو استثناء متصلا لأن بعض أعم العام، كأنه قيل: ما زادوكم شيئا إلا خبالا. وقيل: هو استثناء منقطع، وهذا قولمن قال: إنه لم يكن في عسكر الرسول خبال. فالمعنى: ما زادوكم قوة ولا شدة لكن خبالا. وقرأ ابن أبي عبلة: ما زادوكم بغير واو، ويعني: ما زادكم خروجهم إلا خبالا. والإيضاع الإسراع قال:
* أرانا موضعين لأمر غيب * ونسحر بالطعام وبالشراب *
(٥٠)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 ... » »»