إرادة أن يحذروا الله تعالى، فيعملوا عملا صالحا. ووجه آخر: وهو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم) كان إذا بعث بعثا بعد غزوة تبوك وبعد ما نزل في المتخلفين من الآيات الشدائد استبق المؤمنون عن آخرهم إلى النفير، وانقطعوا جميعا عن الوحي والتفقه في الدين، فأمروا بأن ينفر من كل فرقة منهم طائفة إلى الجهاد، وتبقى أعقابهم يتفقهون حتى لا ينقطعوا عن التفقه الذي هو الجهاد الأكبر، لأن الجهاد بالحجة أعظم أمرا من الجهاد بالسيف. وقوله تعالى: ليتفقهوا، الضمير فيه للفرق الباقية بعد الطوائف النافرة، ولينذروا قومهم، ولينذر الفرق الباقية قومهم النافرين إذا رجعوا إليهم ما حصلوا في أيام غيبتهم من العلوم، وعلى الأول الضمير للطائفة النافرة إلى المدينة للتفقه.
* (قصاص فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم واتقوا الله واعلموا أن الله مع المتقين) *: لما خص تعالى على التفقه في الدين، وحرض على رحلة طائفة من المؤمنين فيه، أمر تعالى المؤمنين كافة بقتال من يليهم من الكفار، فجمع من الجهاد جهاد الحجة وجهاد السيف. وقال بعض الشعراء في ذلك:
* من لا يعدله القرآن كان له * من الصغار وبيض الهند تعديل * قيل: نزلت قبل الأمر بقتل الكفار كافة، فهي من التدريج الذي كان في أول الإسلام. وضعف هذا القول بأن هذه الآية ما نزل. وقالت فرقة: إنما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم) ربما تجاوز قوما من الكفار غازيا لقوم آخرين أبعد منهم، فأمر الله بغزو الأدنى فالأدنى إلى المدينة. وقالت فرقة: الآية مبينة صورة القتال كافة، فهي مترتبة مع الأمر بقتال الكفار كافة، ومعناها أن الله تعالى أمر فيها المؤمنين أن يقاتل كل فريق منهم الجيش الذي يضايقه من الكفرة، وهذا هو القتال لكملة الله ورد البأس إلى الإسلام. وأما إذا مال العدو إلى صقع من أصقاع المسلمين ففرض على من اتصل به من المؤمنين كفاية عدو ذلك الصقع وإن بعدت الدار ونأت البلاد. وقال: قاتلوا هذه المقالة نزلت الآية مشيرة إلى قتال الروم بالشام، لأنهم كانوا يومئذ العدو الذي يلي ويقرب، إذ كانت العرب قد عمها الإسلام، وكانت العراق بعيدة، ثم لما اتسع نطاق الإسلام توجه الفرض في قتال الفرس والديلم وغيرهما من الأمم، وسأل ابن عمر رجل عن قتال الديلم فقال: عليك بالروم. وقال علي بن الحسين والحسن: هم الروم والديلم، يعني في زمنه. وقال ابن زيد: المراد بهذه الآية وقت نزولها العرب، فلما فرغ منهم نزلت في الروم وغيرهم: * (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الاخر) * إلى آخرها. وقيل: هم قريظة والنضير وفدك وخيبر. وقال قوم: تحرجوا أن يقاتلوا أقرباءهم وجيرانهم، فأمروا بقتالهم. ويلونكم: ظاهره القرب في المكان. وقيل: هو عام في القرب في المكان، والنسب والبداءة بقتال من يلي لأنه متعذر قتال كلهم دفعة واحدة، وقد أمرنا بقتال كلهم، فوجب الترجيح بالقرب كما في سائر المهمات كالدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولأن النفقات فيه، والحاجة إلى الدواب والأدوات أقل، ولأن قتال الأبعد تعريض لتدارك المسلمين إلى الفتنة، ولأن الدين يكون إن كانوا ضعفاء كان الاستيلاء عليهم أسهل، وحصول غير الإسلام أيسر. وإن كانوا أقوياء كان تعرضهم لدار الإسلام أشد، ولأن المعرفة بمن يلي آكد منها بمن بعد للوقوف على كيفية أحوالهم وعددهم وعددهم، فترجحت البداءة بقتال من يلي على قتال من بعد. وأمر تعالى المؤمنين بالغلظة على الكفار والشدة عليهم كما قال تعالى: * (جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم) * وذلك ليكون ذلك أهيب وأوقع للفزع في قلوبهم. وقال تعالى: * (أعزة على الكافرين) * وفي الحديث: * (ألقوا * الكفار) * وقال تعالى * (وموعظة للمتقين ولا تهنوا ولا تحزنوا) * وقال: * (فما وهنوا لما أصابهم فى سبيل الله