تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٥ - الصفحة ١٠١
آخرها تقدم شرح نظيره. وإذا كان الضمير للمعتذرين الخالطين التائبين وهو الظاهر، فقد أبرزوا بقوله: فسيرى الله عملكم، إبراز المنافقين الذين قيل لهم: * (لا تعتذروا قد * نبأنا الله من) * وسيرى الآية تنقيصا من حالهم وتنفيرا عما وقعوا فيه من التخلف عن الرسول، وأنهم وإن تابوا ليسوا كالذين جاهدوا معه بأموالهم وأنفسهم لا يرغبون بأنفسهم عن نفسه.
* (تعملون وءاخرون مرجون لامر الله إما يعذبهم وإما يتوب عليهم والله عليم حكيم) *: قال ابن عباس، وعكرمة، ومجاهد، والضحاك، وقتادة، وابن إسحاق: نزلت في الثلاثة الذين خلفوا قبل التوبة عليهم هلال بن أمية الواقفي، ومرارة بن الربيع العامري، وكعب بن مالك. وقيل: نزلت في المنافقين المعرضين للتوبة مع بنائهم مسجد الضرار. وقرأ الحسن، وطلحة، وأبو جعفر، وابن نصاح، والأعرج، ونافع، وحمزة، والكسائي، وحفص: مرجون وترجى بغير همز. وقرأ باقي السبعة: بالهمز، وهما لغتان، لأمر الله أي لحكمة، إما يعذبهم إن أصروا ولم يتوبوا، وإما يتوب عليهم إن تابوا. وقال الحسن: هم قوم من المنافقين أرجأهم رسول الله صلى الله عليه وسلم) عن حضرته. وقال الأصم: يعني المنافقين أرجأهم الله فلم يخبر عنهم بما علم منهم، وحذرهم بهذه الآية إن لم يتوبوا. وإما معناها الموضوعة له هو أحد الشيئين أو الأشياء، فينجر مع ذلك أن تكون للشك أو لغيره، فهي هنا على أصل موضوعها وهو القدر المشترك الذي هو موجود في سائر ما زعموا أنها وضعت له وضع الاشتراك. والله عليم بما يؤول إليه أمرهم، حكيم فيما يفعله بهم.
* (والذين اتخذوا مسجدا ضرارا * كفرا * وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى والله يشهد إنهم لكاذبون) * لما ذكر طرائق ذميمة لأصناف المنافقين أقوالا وأفعالا لأذكر أن منهم من بالغ في الشر حتى ابتنى مجمعا للمنافقين يدبرون فيه ما شاءوا من الشر، وسموه مسجدا. ولما بنى عمرو بن عوف مسجد قباء، وبعثوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم) فجاء وصلى فيه ودعا لهم، حسدهم بنو عمهم بنو غنم بن عوف، وبنو سالم بن عوف، وحرضهم أبو عمر والفاسق على بنائه حين نزل الشام هاربا من وقعة حنين فراسلهم في بنائه وقال: ابنوا لي مسجدا فإني ذاهب إلى قيصر آتى بجند من الروم فأخرج محمدا وأصحابه، فبنوه إلى مسجد قباء، وكانوا اثنى عشر رجلا من المنافقين: خذام بن خالد. ومن داره أخرج المسجد، وثعلبة بن حاطب، ومعتب بن قشير، وحارثة بن عامر، وابناه مجمع وزيد، ونبتل بن الحرث، وعباد بن حنيف، ونجاد بن عثمان، ووديعة بن ثابت، وأبو حنيفة الأزهر، وبخرج بن عمرو، ورجل من بني ضبيعة، وقالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم): بنينا مسجد الذي العلة والحاجة والليلة المطيرة والشاتية، ونحن نحب أن تصلي لنا فيه، وتدعوا لنا بالبركة فقال صلى الله عليه وسلم): (إني على جناح سفر وحال شغل، وذا قدمنا إن شاء الله صلينا فيه) وكان إمامهم مجمع بن جارية وكان غلاما قارئا للقرآن حسن الصوت، وهو ممن حسن إسلامه، وولاه عمر إمامة مسجد قباء بعد مراجعة، ثم بعثه إلى الكوفة يعلمهم القرآن، فلما قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم) من غزوة تبوك نزل بذي أوان بلد بينه وبين المدينة ساعة من نهار، ونزل عليه القرآن في شأن مسجد الضرار، فدعا مالك بن الدخشم ومعنا وعاصما ابني عدي. وقيل: بعث عمار بن ياسر ووحشيا قاتل حمزة بهدمه وتحريقه، فهدم وحرق بنار في سعف، واتخذ كناسة ترمى فيها الجيف والقمامة. وقال ابن جريج: صلوا فيه الجمعة والسبت والأحد وانهار يوم الاثنين ولم يحرق. وقرأ أهل المدينة: نافع، وأبو جعفر، وشيبة، وغيرهم، وابن عامر: الذين بغير واو، كذا هي في مصاحف المدينة والشام، فاحتمل أن يكون بدلا من قوله: وآخرون مرجون، وأن يكون خبر ابتداء تقديره: هم الذين، وأن يكون مبتدأ. وقال الكسائي: الخبر لا تقم فيه أبد. قال ابن عطية: ويتجه بإضمار إما في أول الآية، وإما في آخرها بتقدير لا تقم في مسجدهم. وقال
(١٠١)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 96 97 98 99 100 101 102 103 104 105 106 ... » »»