تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٣ - الصفحة ٥٧
لما قدم ليس لك من الأمر شيء، بين أن الأمور إنما هي لمن له الملك، والملك فجاء بهذه الجملة مؤكدة للجملة السابقة. وتقدم شرح هذه الجملة. وما: إشارة إلى جملة العالم وما هيأته، فلذلك حسنت ما هنا.
* (يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء) * لما تقدم قوله: أو يتوب عليهم أو يعذبهم، أتى بهذه الجملة موضحة أن تصرفاته تعالى على وفق مشيئته، وناسب البداءة بالغفران، والإرداف بالعذاب ما تقدم من قوله: أو يتوب عليهم أو يعذبهم، ولم يشرط في الغفران هنا التوبة. إذ يغفر تعالى لمن يشاء من تائب وغير تائب، ما عدا ما استثناه تعالى من الشرك. وقال الزمخشري ما نصه عن الحسن رحمه الله: يغفر لمن يشاء بالتوبة، ولا يشاء أن يغفر إلا للتائبين. ويعذب من يشاء، ولا يشاء أن يعذب إلا المستوجبين للعذاب. وعن عطاء: يغفر لمن يتوب إليه، ويعذب من لقيه ظالما وأتباعه قوله: أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون، تفسير بين لمن يشاء، فإنهم المتوب عليهم أو الظالمون. ولكن أهل الأهواء والبدع يتصامون ويتعامون عن آيات الله تعالى، فيخبطون خبط عشواء، ويطيبون أنفسهم بما يفترون. عن ابن عباس من قولهم: يهب الذنب الكبير لمن يشاء، ويعذب من يشاء على الذنب الصغير. انتهى كلامه. وهو مذهب المعتزلة. وذلك أن من مات مصرا على كبيرة لا يغفر الله له. وما ذكره عن الحسن لا يصح ألبتة. ومذهب أهل السنة؛ أن الله تعالى يغفر لمن يشاء وإن مات مصرا على كبيرة غير تائب منها.
* (والله غفور رحيم) * في هذه الجملة ترجيح لجهة الإحسان والإنعام * (رحيم ياأيها الذين ءامنوا لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة) * قال ابن عطية: هذا النهي عن أكل الربا اعترض أثناء قصة أحد، ولا أحفظ شيئا في ذلك مرويا انتهى.
ومناسبة هذه الآية لما قبلها ومجيئها بين أثناء القصة: أنه لما نهى المؤمنين عن اتخاذ بطانة من غيرهم، واستطرد لذكر قصة أحد. وكان الكفار أكثر معاملاتهم بالربا مع أمثالهم ومع المؤمنين، وهذه المعاملة مؤدية إلى مخالطة الكفار، نهوا عن هذه المعاملة التي هي الربا قطعا لمخالطة الكفار ومودتهم، واتخاذ إخلاء منهم، لا سيما والمؤمنون في أول حال الإسلام ذوو إعسار، والكفار من اليهود وغيرهم ذوو يسار. وكان أيضا أكل الحرام له مدخل عظيم في عدم قبول الأعمال الصالحة والأدعية، كما جاء في الحديث: (إن الله تعالى لا يستجيب لمن مطعمه حرام ومشربه حرام إذا دعا) (وأن آكل الحرام يقول إذا حج: لبيك وسعديك. فيقول الله له: لا لبيك ولا سعديك، وحجك مردود عليك) فناسب ذكر هذه الآية هنا.
وقيل: ناسب اعتراض هذه الجملة هنا أنه تعالى وعد المؤمنين بالنصر والإمداد مقرونا بالصبر والتقوى، فبدأ بالأهم منها وهو: ما كانوا يتعاطونه من أكل الأموال بالباطل، وأمر بالتقوى، ثم بالطاعة. وقيل: لما قال تعالى: * (ولله ما فى * السماوات وما في الارض) * وبين أن ما فيهما من الموجودات ملك له، ولا يجوز أن يتصرف في شيء منها إلا بإذنه على الوجه الذي شرعه. وآكل الربا متصرف في ماله بغير الوجه الذي أمر، نبه تعالى على ذلك، ونهى عما كانوا في الإسلام مستمرين عليه من حكم الجاهلية، وقد تقدم الربا في سورة البقرة.
وانتصب أضعافا، فانهوا عن الحالة الشنعاء التي يوقعون الربا عليها، كان الطالب يقول: أتقضي أم تربي، وربما استغرق بالنزر اليسير مال المدين، لأنه إذا لم يجد وفاء زاد في الدين، وزاد في الأصل. وأشار بقوله: مضاعفة، إلى أنهم كانوا يكررون التضعيف عاما بعد عام. والربا محرم جميع أنواعه، فهذه الحال لا مفهوم لها، وليست قيدا في النهي، إذ ما لا يقع أضعافا مضاعفة مساو في التحريم لما كان أضعافا مضاعفة. وقد تقدم الكلام في نسبة الآكل إلى الربا في البقرة.
وقيل: المضاعفة منصرفة إلى الأموال. فإن كان الربا في السن يرفعونها ابنة
(٥٧)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 ... » »»