تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٣ - الصفحة ٥٢
أن يمدكم ربكم بثلاثة ءالاف من الملئكة منزلين * بلى) * ظاهر هذه الآية اتصالها بما قبلها، وأنها من قصة بدر، وهو قول الجمهور، فيكون إذ معمولا لنصركم. وقيل: هذا من تمام قصة أحد، فيكون قوله: * (ولقد نصركم الله ببدر) * معترضا بين الكلامين لما فيه من التحريض على التوكل والثبات للقتال. وحجة هذا القول أن يوم بدر كان المدد فيه من الملائكة بألف، وهنا بثلاثة آلاف وخمسة آلاف. والكفار يوم بدر كانوا ألفا، والمسلمون على الثلث. فكان عدد الكفار ثلاثة آلاف، فوعدوا بثلاثة آلاف من الملائكة. وقال: ويأتوكم من فورهم، أي الإمداد. ويوم بدر ذهب المسلمون إليهم. قال الزمخشري: (فإن قلت): كيف يصح أن يقوله لهم يوم أحد، ولم ينزل فيه الملائكة؟ (قلت): قاله لهم مع اشتراط الصبر والتقوى عليهم. فلم يصبروا عن الغنائم، ولم يتقوا حيث خالفوا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم)، فلذلك لم تنزل الملائكة، ولو تموا على ما شرط عليهم لنزلت. وإنما قدم الوعد بنزول الملائكة لتقوى قلوبهم ويعزموا على الثبات، ويثقوا بنصر الله انتهى كلامه.
وقوله: لم تنزل فيه الملائكة ليس مجمعا عليه، بل قال مجاهد: حضرت فيه الملائكة ولم تقاتل، فعلى قول مجاهد يسقط السؤال. وقوله: قاله لهم مع اشتراط الصبر والتقوى عليهم، فلم يصبروا عن الغنائم، ولم يتقوا إلى آخره المشروط بالصبر والتقوى هو الإمداد بخمسة آلاف. أما الإمداد الأول وهو بثلاثة آلاف فليس بمشروط، ولا يلزم من عدم إنزال خمسة آلاف لفوات شرطه أن لا ينزل ثلاثة آلاف، ولا شيء منها، وأجيب عن عدم إنزال ثلاثة آلاف: أنه وعد من رسول الله صلى الله عليه وسلم) للمؤمنين الذين بوأهم مقاعد للقتال، وأمرهم بالسكون والثبات فيها، فكان هذا الوعد مشروطا بالثبوت في تلك المقاعد. فلما أهملوا الشرط لم يحصل المشروط انتهى. ولا خفاء بضعف هذا الجواب. قال الضحاك: كان هذا الوعد والمقالة للمؤمنين يوم أحد، ففر الناس وولوا مدبرين فلم يهدهم الله، وإنما مدوا يوم بدر بألف من الملائكة. وقال ابن زيد: لم يصبروا. وقال عكرمة: لم يصبروا، ولم يتقوا يوم أحد، فلم يمدوا. ولو مدوا لم ينهزموا. وكان الوعد بالإمداد يوم بدر، ورجح أنه قال ذلك يوم بدر، فظاهر اتصال الكلام. ولأن قلة العدد، والعدد كان يوم بدر، فكانوا إلى تقوية قلوبهم بالوعد أحوج. ولأن الوعد بثلاثة آلاف كان، غير مشروط، فوجب حصوله. وإنما حصل يوم بدر والجمع بين ألف وثلاثة آلاف كان غير مشروط، فوجب حصوله، وإنما حصل يوم بدر أنهم مدوا أولا بألف، ثم زيد فيهم ألفان، وصارت ثلاثة آلاف. أو مدوا بألف أولا، ثم بلغهم إمداد المشركين بعدد كثير، فوعد بالخمسة على تقدير إمداد الكفار. فلم يمد الكفار، فاستغنى عن إمداد المسلمين.
والظاهر في هذه الأعداد إدخال الناقص في الرائد، فيكون وعدوا بألف، ثم ضم إليه ألفان، ثم ألفان، فصار خمسة. ومن ضم الناقص إلى الزائد وجعل ذلك في قصة أحد، فيكونون قد وعدوا بثمانية آلاف. أو في قصة بدر فيكونون قد وعدوا بتسعة آلاف. ولم تتعرض الآية الكريمة لنزول الملائكة، ولا لقتالهم المشركين وقتلهم، بل هو أمر مسكوت عنه في الآية. وقد تظاهرت الروايات وتظافرت على أن الملائكة حضرت بدرا وقاتلت. ذكر ذلك ابن عطية عن جماعة من الصحابة بما يوقف عليه في كتابه. ولما لم تتعرض له الآية لم نكثر كتابنا بنقله. وذكر ابن عطية أن الشعبي قال: لم تمد المؤمنون بالملائكة يوم بدر، وكانت الملائكة بعد ذلك تحضر حروب النبي صلى الله عليه وسلم) مددا، وهي تحضر حروب المسلمين إلى يوم القيامة. قال: وخالف الناس الشعبي في هذه المقالة، وذكر أبو عبد الله محمد بن عمر الرازي ما نصه وأجمع أهل التفسير والسير: على أن الله تعالى أنزل الملائكة يوم بدر وأنهم قاتلوا
(٥٢)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 ... » »»