تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٣ - الصفحة ٥٣
الكفار. ثم قال: وأما أبو بكر الأصم فإنه أنكر ذلك أشد الإنكار، وذكر عنه حججا ثم قال: وكل هذه الشبه تليق بمن ينكر القرآن والنبوة، لأن القرآن والسنة ناطقان بذلك، يعني بإنزال الملائكة. ثم قال: واختلفوا في نصرة الملائكة. فقيل: بالقتال. وقيل: بتقوية نفوس المؤمنين وإلقاء الرعب في قلوب الكفار. والظاهر في المدد أنهم يشركون الجيش في القتال، وأن يكون مجرد حضورهم كافيا انتهى كلامه.
ودخلت أداة الاستفهام على حرف النفي على سبيل الإنكار، لانتفاء الكفاية بهذا العدد من الملائكة. وكان حرف النفي (لن) الذي هو أبلغ في الاستقبال من لا، إشعارا بأنهم كانوا لقلتهم وضعفهم وكثرة عدوهم وشوكتهم كالآيسين من النصرة.
وبلى: إيجاب لما بعد لن، يعني: بلى يكفيكم الإمداد بهم، فأوجب الكفاية. وفي مصحف أبي: ألا يكفيكم انتهى. ومعظمه من كلام الزمخشري.
وقال ابن عطية: ألن يكفيكم تقرير على اعتقادهم الكفاية في هذا العدد من الملائكة؟ ومن حيث كان الأمر بيتا في نفسه أن الملائكة كافية، بادر المتكلم إلى جواب ليبني ما يستأنف من قوله عليه فقال: بلى، وهي جواب المقررين. وهذا يحسن في الأمور البينة التي لا محيد في جوابها، ونحوه قوله تعالى: * (قل أى شىء أكبر شهادة قل الله) * انتهى. وقال أبو عبد الله محمد بن أبي الفضل المرسي: ألن يكفيكم جواب الصحابة حين قالوا: هلا أعلمتنا بالقتال لنتأهب. فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم): (ألن يكفيكم). قال ابن عيسى: والكفاية مقدار سد الخلة، والإمداد إعطاء الشيء حالا بعد حال انتهى.
وقرأ الحسن: بثلاثة آلاف يقف على الهاء، وكذلك بخمسة آلاف. قال ابن عطية: ووجه هذه القراءة ضعيف، لأن المضاف والمضاف إليه يقتضيان الاتصال، إذ هما كالاسم الواحد، وإنما الثاني كمال الأول. والهاء إنما هي أمارة وقف، فتعلق الوقف في موضع إنما هو للاتصال، لكن قد جاء نحو هذا للعرب في مواضع. فمن ذلك ما حكاه الفراء أنهم يقولون: أكلت لحما شاة، يريدون لحم شاة، فمطلوا الفتحة حتى نشأت عنها ألف، كما قالوا في الوقف قالا: يريدون. قال: ثم مطلوا الفتحة في القوافي ونحوها في مواضع الروية والتثبت. ومن ذلك في الشعر قول الشاعر:
* ينباع من زفرى غضوب جسرة * زيانة مثل الغنيق المكرم * يريد ينبع فمطل. ومنه قول الآخر:
* أقول إذ خرت على الكلكال * يا ناقتا ما جلت من مجال * يريد الكلكال فمطل. ومنه قول الآخر:
* فأنت من الغوائل حين ترمى * ومن ذم الرجال بمنتزاح * يريد بمنتزح. قال أبو الفتح: فإذا جاز أن يعترض هذا التمادي بين أثناء الكلمة الواحدة، جاز التمادي والتأني بين المضاف والمضاف إليه، إذ هما في الحقيقة اثنان انتهى كلامه. وهو تكثير وتنظير بغير ما يناسب، والذي يناسب توجيه هذه القراءة الشاذة أنها من إجراء الوصل مجرى الوقف، أبدلها هاء في الوصل، كما أبدلوا لها هاء في الوقف، وموجود في كلامهم إجراء الوصل مجرى الوقف، وإجراء الوقف مجرى الوصل. وأما قوله: لكن قد جاء نحو هذا للعرب في مواضع، وجميع ما ذكر إنما هو من باب إشباع الحركة. وأشباع الحركة ليس نحو إبدال التاء هاء في الوصل، وإنما هو نظير قولهم: ثلاثة
(٥٣)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 ... » »»