تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٣ - الصفحة ٥٣٣
حتى يتمكن فيه ويتدرب وينسب إليه، وكان المعنى في ذلك: أن مواقع المعصية معها الشهوة التي تدعوه إليها وتحمله على ارتكابها، وأما الذي ينهاه فلا شهوة معه في فعل غيره، فإذا أفرط في الإنكار كان أشد حالا من المواقع، وظهر بذلك الفرق بين ذم متعاطي الذنب، وبين تارك النهي عنه، حيث جعل ذلك عملا وهذا صناعة. وقد يقال: أنه غاير في ذلك لتفنن الفصاحة، ولترك تكرار اللفظ. وفي الحديث: * (ما من * رجل) * وأوحى إلى يوشع بهلاك أربعين ألفا من خيار قومه، وستين ألفا من شرارهم فقال: يا رب ما بال الأخيار؟ فقال: إنهم لم يغضبوا الغضبى، وواكلوهم وشاربوهم. وقال مالك بن دينار: أوحى الله إلى الملائكة أن عذبوا قرية كذا، فقالت الملائكة: إن فيها عبدك العابد فقال: أسمعوني ضجيجه، فإنه لم يتمعر وجهه أي: لم يحمر غضبا. وكتب بعض العلماء إلى عابد تزهد وانقطع في البادية: إنك تركت المدينة مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم) ومهبط وحيه وآثرت البداوة. فقال: كيف لا أترك مكانا أنت رئيسه، وما رأيت وجهك تمعر في ذات الله قط يوما أو كلاما هذا معناه أو قريب من معناه. وأما زماننا هذا وعلماؤنا وعبادنا فحالهم معروف فيه، ولم نر في أعصارنا من يقارب السلف في ذلك غير رجل واحد وهو أستاذنا أبو جعفر بن الزبير، فإن له مقامات في ذلك مع ملوك بلاده ورؤسائهم حمدت فيها آثاره، ففي بعضها ضرب ونهبت أمواله وخربت دياره، وفي بعضها أنجاه من الموت فراره، وفي بعضها جعل السجن قراره.
* (لبئس ما كانوا يعملون لولا ينهاهم الربانيون والاحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يصنعون وقالت اليهود يد الله مغلولة) * نزلت في فنخاص قاله: ابن عباس. وقال مقاتل: فيه وفي ابن صوريا، وعازر بن أبي عازر قالوا ذلك. ونسب ذلك إلى اليهود، لأن هؤلاء علماؤهم وهم أتباعهم في ذلك. واليد في الجارحة حقيقة، وفي غيرها مجاز، فيراد بها النعمة تقول العرب: كم يدلي عند فلان، والقوة والملك والقدرة. قل: إن الفضل بيد الله قال الشاعر:
وأنت على أعباء ملكك ذو يد أي ذو قدرة، والتأييد والنصر يد الله مع القاضي حين يقضي، والقاسم حين يقسم. وتأتي صلة (مما عملت أيدينا أنعاما) أي مما عملنا * (أو يعفوا الذى بيده عقدة النكاح) * أي الذي له عقدة النكاح. وظاهر قول اليهود إن لله يدا فإن كانوا أرادوا الجارحة فهو مناسب مذهبهم إذ هو التجسيم، زعموا أن ربهم أبيض الرأس واللحية، قاعد على كرسي. وزعموا أنه فرغ من خلق السماوات والأرض يوم الجمعة، واستلقى على ظهره واضعا إحدى رجليه على الأخرى للاستراحة. ورد الله تعالى ذلك بقوله: * (ولم يعى بخلقهن) * * (وما مسنا من لغوب) * وظاهر مساق الآية يدل على أنهم أرادوا بغل اليد وبسطها المجاز عن البخل والجود، ومنه * (ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط) * ولا يقصد من يتكلم بهذا الكلام إثبات يد ولا غل ولا بسط، ولا فرق عنده بين هذا الكلام وبين ما وقع مجازا عنه، كأنهما كلامان متعاقبان على حقيقة واحدة، حتى أنه يستعمله في ملك لا يعطي عطاء قط، ولا يمنعه إلا بإشارته من غير استعمال يد وبسطها وقبضها. وقال حبيب في المعتصم
(٥٣٣)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 528 529 530 531 532 533 534 535 536 537 538 ... » »»