تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٣ - الصفحة ٥٣٥
* يداك يدا مجد فكف مفيدة * وكف إذا ما ضن بالمال تنفق * ويؤيد أن اليدين هنا بمعنى الإنعام قرينة الإنفاق. ومن نظر في كلام العرب عرف يقينا أن بسط اليد وقبضها استعارة للجود والبخل، وقد استعملت العرب ذلك حيث لا يكون قال الشاعر:
* جاد الحمى بسط اليدين بوابل * شكرت نداه تلاعه ووهاده * وقال لبيد:
* وغداة ريح قد وزعت وقرة * قد أصبحت بيد الشمال زمامها * ويقال: بسط اليأس كفه في صدري، واليأس معنى لا عين وقد جعل له كفا. قال الزمخشري: ومن لم ينظر في علم البيان عمى عن تبصر محجة الصواب في تأويل أمثال هذه الآية، ولم يتخلص من يد الطاعن إذا عبثت به ثم قال: (فإن قلت): لم ثينت اليد في بل يداه مبسوطتان وهي مفردة في يد الله مغلولة؟ (قلت): ليكون رد قولهم وإنكاره أبلغ وأدل على إثبات غاية السخاء له ونفى البخل عنه، وذلك أن غاية ما يبذله السخي بما له من نفسه، وأن يعطيه بيديه جميعا، فبنى المجاز على ذلك انتهى. وكلامه في غاية الحسن. وقيل عن ابن عباس: يداه نعمتاه، فقيل: هما مجازان عن نعمة الدين ونعمة الدنيا، أو نعمة سلامة الأعضاء والحواس ونعمة الرزق والكفاية، أو الظاهرة والباطنة، أو نعمة المطر ونعمة النبات، وما ورد مما يوهم التجسيم كهذا. وقوله: * (لما خلقت بيدى) * و * (مما عملت أيدينا) * و * (يد الله فوق أيديهم) * و * (ولتصنع على عينى) * و * (تجرى بأعيننا) * و * (هالك إلا وجهه) * ونحوها. فجمهور الأمة أنها تفسر على قوانين اللغة ومجاز الاستعارة وغير ذلك من أفانين الكلام.
وقال قوم منهم القاضي أبو بكر بن الطيب: هذه كلها صفات زائدة على الذات، ثابتة لله تعالى من غير تشبيه ولا تجديد. وقال قوم منهم الشعبي، وابن المسيب، والثوري: نؤمن بها ونقر كما نصت، ولا نعين تفسيرها، ولا يسبق النظر فيها. وهذان القولان حديث من لم يمعن النظر في لسان العرب، وهذه المسألة حججها في علم أصول الدين. وقرأ عبد الله: بسيطتان يقال: يد بسيطة مطلقة بالمعروف. في مصحف عبد الله: بسطان، يقال: يده بسط بالمعروف وهو على فعل كما تقول: ناقة صرح، ومشية سجح، ينفق كيف يشاء هذا تأكيد للوصف بالسخاء، وأنه لا ينفق إلا على ما تقتضيه مشيئته، ولا موضع لقوله تنفق من الإعراب إذ هي جملة مستأنفة، وقال الحوفي: يجوز أن يكون خبرا بعد خبر، ويجوز أن يكون حالا من الضمير في مبسوطتان انتهى. ويحتاج في هذين الإعرابين إلى أن يكون الضمير العائد على المبتدأ، أو على ذي الحال محذوفا التقدير: ينفق بهما. قال الحوفي: كيف سؤال عن حال، وهي نصب بيشاء انتهى. ولا يعقل هنا كونها سؤالا عن حال، بل هي في معنى الشرط كما تقول: كيف تكون أكون، ومفعول يشاء محذوف، وجواب كيف محذوف يدل عليه ينفق المتقدم، كما يدل في قولك: أقوم إن قام زيد على جواب الشرط والتقدير: ينفق كيف يشاء أن ينفق ينفق، كما تقول: كيف تشاء أن أضربك أضربك، ولا يجوز أن يعمل كيف ينفق لأن اسم بالشرط لا يعمل فيه ما قبله إلا إن كان جارا، فقد يعمل في بعض أسماء الشرط. ونظير ذلك قوله: * (فيبسطه فى السماء كيف يشاء) *.
(٥٣٥)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 530 531 532 533 534 535 536 537 538 539 540 ... » »»