تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٣ - الصفحة ٥٤٤
عما انتحلوه في حقهم من دعوى أنه إله، وأنه ظلم إذا جعلوا ما هو مستحل في العقل واجبا وقوعه، أو فلا ناصر له ولا منجي من عذاب الله في الآخرة. ويحتمل أن يكون من كلام الله تعالى، أخبر أنهم ظلموا وعدلوا عن الحق في أمر عيسى وتقولهم عليه، فلا ناصر لهم على ذلك.
* (لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة) * هؤلاء هم الملكية من النصارى القائلون بالتثليث. وظاهر قوله: ثالث ثلاثة، أحد آلهة ثلاثة. قال المفسرون: أرادوا بذلك أن الله تعالى وعيسى وأمه آلهة ثلاثة، ويؤكده * (قلت للناس اتخذونى وأمى إلاهين من دون الله قال) * * (ما اتخذ صاحبة ولا ولدا) * * (أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة) * * (ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله) *. وحكى المتكلمون عن النصارى أنهم يقولون: جوهر واحد ثلاثة أقانيم: أب، وابن، وروح قدس. وهذه الثلاثة إله واحد، كما أن الشمس تتناول القرص والشعاع والحرارة، وعنوا بالأب الذات، وبالابن الكلمة، وبالروح الحياة. وأثبتوا الذات والكلمة والحياة وقالوا: إن الكلمة التي هي كلام الله اختلطت بجسد عيسى اختلاط الماء بالحمر، أو اختلاط اللبن بالماء، وزعموا أن الأب إله، والابن إله، والروح إله، والكل إله واحد. وهذا معلوم البطلان ببديهة العقل أن الثلاثة لا تكون واحدا، وأن الواحد لا يكون ثلاثة، ولا يجوز في العربية في ثالث ثلاثة إلا الإضافة، لأنك لا تقول ثلثت الثلاثة. وأجاز النصب في الذي يلي اسم الفاعل الموافق له في اللفظ أحمد بن يحيى ثعلب، وردوه عليه جعلوه كاسم الفاعل مع العدد المخالف نحو: رابع ثلاثة، وليس مثله إذ تقول: ربعت الثلاثة أي صيرتهم بك أربعة.
* (وما من إلاه إلا إلاه واحد) * معناه لا يكون إله في الوجود إلا متصفا بالوحدانية، وأكد ذلك بزيادة من الاستغراقية وحصر إلهيته في صفة الوحدانية. وإله رفع على البدل من إله على الموضع. وأجاز الكسائي اتباعه على اللفظ، لأنه يجيز زيادة من في الواجب، والتقدير: وما إله في الوجود إلا إله واحد أي: موصوف بالوحدانية لا ثاني له وهو الله تعالى.
* (وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم) * أي عما يفترون ويعتقدون في عيسى من أنه هو الله، أو أنه ثالث ثلاثة، أوعدهم بإصابة العذاب الأليم لهم في الدنيا بالسبي والقتل، وفي الآخرة بالخلود في النار، وقدم الوعيد على الاستدلال بسمات الحدوث إبلاغا في الزجر أي: هذه المقالة في غاية الفساد، بحيث لا تختلف العقول في فسادها، فلذلك توعد أولا عليها بالعذاب، ثم اتبع الوعيد بالاستدلال بسمات الحدوث على بطلانها.
وليمسن اللام فيه جواب قسم محذوف قبل أداة الشرط، وأكثر ما يجيء هذا التركيب وقد صحبت أن اللام المؤذنة بالقسم المحذوف كقوله: * (لئن لم ينته المنافقون والذين فى قلوبهم مرض والمرجفون فى المدينة لنغرينك بهم) * ونظير هذه الآية: * (وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين) * ومثله: * (وإن أطعتموهم إنكم لمشركون) * ومعنى مجيء إن بغير باء، دليل على أنه قبل إن قسم محذوف إذ لولا نية القسم لقال: فإنكم لمشركون الذين كفروا أي: الذين ثبتوا على هذا الاعتقاد. وأقام الظاهر مقام المضمر، إذ كان الربط بحصل بقوله: ليمسنهم، لتكرير الشهادة عليهم بالكفر في قوله: لقد كفر وللإعلام بأنهم كانوا بمكان من الكفر، إذ جعل الفعل في صلة الذين وهي تقتضي كونها معلومة للسامع مفروغا من ثبوتها، واستقرارها لهم ومن في منهم للتبعيض، أي كائنا منهم، والربط حاصل بالضمير، فكأنه قيل: كافرهم وليسوا كلهم بقوا على الكفر، بل قد تاب كثير منهم من النصرانية. ومن أثبت أن من تكون لبيان الجنس أجاز ذلك هنا، ونظره بقوله: * (فاجتنبوا الرجس من الاوثان) *.
* (أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه) * هذا لطف بهم واستدعاء إلى التنصل من تلك المقالة الشنعاء بعد أن كرر عليهم الشهادة بالكفر. والفاء في أفلا للعطف، حجزت بين الاستفهام ولا النافية، والتقدير: فألا. وعلى طريقة الزمخشري تكون قد عطفت
(٥٤٤)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 539 540 541 542 543 544 545 546 547 548 549 ... » »»