تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٣ - الصفحة ٥٢٨
الإسلام وأنتم خارجون. والوجه الثاني: أن يكون معطوفا على إن آمنا، إلا أنه على حذف مضاف تقديره: واعتقادنا فيكم أن أكثركم فاسقون، وهذا معنى واضح. ويكون ذلك داخلا في ما تنقمون حقيقة. الثالث: أن تكون الواو واو مع، فتكون في موضع نصب مفعولا معه التقدير: وفسق أكثرهم أي: تنقمون ذلك مع فسق أكثركم والمعنى: لا يحسن أن تنقموا مع وجود فسق أكثركم كما تقول: تسيء إلي مع أني أحسنت إليك. الرابع: أن تكون في موضع نصب مفعول بفعل مقدر يدل عليه، هل تنقمون تقديره: ولا تنقمون أن أكثركم فاسقون. والجر على أنه معطوف على قوله: بما أنزل إلينا وما أنزل من قبل وبأن أكثركم فاسقون، والجر على أنه معطوف على علة محذوفة التقدير: ما تنقمون منا إلا الإيمان لقلة إنصافكم وفسقكم. ويدل عليه تفسير الحسن بفسقكم نقمتم ذلك علينا. فهذه سبعة وجوه في موضع أو وصلتها، ويظهر وجه ثامن ولعله يكون الأرجح، وذلك أن نقم أصلها أن تتعدى بعلى، تقول: نقمت على الرجل أنقم، ثم تبنى منها افتعل فتعدى إذ ذاك بمن، وتضمن معنى الإصابة بالمكروه.
قال تعالى: * (ومن عاد فينتقم الله منه والله عزيز ذو انتقام) * ومناسبة التضمين فيها أن من عاب على شخص فعله فهو كاره له لا محالة ومصيبه عليه بالمكروه، وإن قدر، فجاءت هنا فعل بمعنى افتعل لقولهم: وقد رأوه، ولذلك عديت بمن دون التي أصلها أن يعدي بها، فصار المعنى: وما تنالون منا أو وما تصيبوننا بما نكره إلا أن آمنا أي: لأن آمنا، فيكون أن آمنا مفعولا من أجله، ويكون وإن أكثركم فاسقون معطوفا على هذه العلة، وهذا والله أعلم سبب تعديته بمن دون على، وخص أكثركم بالفسق لأن فيهم من هدى إلى الإسلام، أو لأن فساقهم وهم المبالغون في الخروج عن الطاعة هم الذين يقولون ما يقولون ويفعلون ما يفعلون تقربا إلى الملوك، وطلبا للجاه والرياسة، فهم فساق في دينهم لا عدول، وقد يكون الكافر عدلا في دينه، ومعلوم أن كلهم لم يكونوا عدولا في دينهم، فلذلك حكم على أكثرهم بالفسق.
* (قل هل أنبئكم بشر من ذالك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد) * الخطاب بالأمر للرسول صلى الله عليه وسلم) وتضمن الخطاب لأهل الكتاب الذين أمر أن يناديهم أو يخاطبهم بقوله تعالى: يا أهل الكتاب هل تنقمون منا، هذا هو الظاهر. قال ابن عطية: ويحتمل أن يكون ضمير الخطاب للمؤمنين أي: قل يا محمد للمؤمنين هل أنبئكم بشر من حال هؤلاء الفاسقين في وقت الرجوع إلى الله، أولئك أسلافهم الذين لعنهم الله وغضب عليهم، وتكون الإشارة بذلك إلى حالهم انتهى. فعلى هذا الإضمار يكون قوله: بشر أفعل تفضيل باقية على أصل وضعها من كونها تدل على الاشتراك في الوصف، وزيادة الفضل على المفضل عليه في الوصف، فيكون ضلال أولئك الأسلاف وشرهم أكثر من ضلال هؤلاء الفاسقين، وإن كان الضمير خطابا لأهل الكتاب، فيكون شر على بابها من التفضيل على معتقد أهل الكتاب إذ قالوا: ما نعلم دينا شرا من دينكم. وفي الحقيقة لا ضلال عند المؤمنين، ولا شركة لهم في ذلك مع أهل الكتاب، وذلك كما ذكرنا إشارة إلى دين المؤمنين، أو حال أهل الكتاب، فيحتاج إلى حذف مضاف: إما قبله، وإما بعده. فيقدر قبله: بشر من أصحاب هذه الحال، ويقدر بعده: حال من لعنه الله ولكون لعنه الله إن اسم الإشارة يكون على كل حال من تأنيث وتثنية وجمع كما يكون للواحد المذكر، فيحتمل أن يكون ذلكم من هذه اللغة، فيصير إشارة إلى الأشخاص كأنه قال: بشر من أولئكم، فلا يحتاج إلى تقدير مضاف، لا قبل اسم الإشارة، ولا بعده، إذ يصير من لعنه الله تفسير أشخاص بأشخاص. ويحتمل أن يكون ذلكم أيضا إشارة إلى متشخص، وأفرد على معنى الجنس كأنه قال: قل هل أنبئكم بشر من جنس الكتابي، أو من جنس المؤمن، على اختلاف التقديرين اللذين سبقا، ويكون أيضا من لعنه الله تفسير شخص بشخص.
وقرأ النخعي وابن وثاب: أنبئكم من أنبأ
(٥٢٨)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 523 524 525 526 527 528 529 530 531 532 533 ... » »»