تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٣ - الصفحة ٤٩١
تشنيع وإيهام أن عيسى بن عمر قرأها من قبل نفسه، وليس كذلك، بل قراءته مستندة إلى الصحابة، وإلى الرسول، فقراءته قراءة الرسول أيضا، وقوله: وجميع الأمة، لا يصح هذا الإطلاق، لأن عيسى بن عمر وإبراهيم بن أبي عبلة ومن وافقهما، وأشياخهم الذين أخذوا عنهم هذه القراءة هم من الأمة، وقال سيبويه: وقد قرأ أناس * (والسارق والسارقة) * * (والزانية والزاني) * النور [2] فأخبر أنها قراءة ناس، وقوله: وجميع الأمة لا يصح هذا العموم، قال الفخر الرازي: الثاني من الوجوه التي تدل على فساد قول سيبويه، أن القراءة بالنصب لو كانت أولى لوجب أن يكون في القراء من قرأ * (واللذان يأتيانها منكم فآذوهما) * النساء [186] بالنصب، ولما لم يوجد في القراء أحد قرأ كذلك علمنا سقوط هذا القول قلت: لم يدع سيبويه أن قراءة النصب أولى، فيلزمه ما ذكر، وإنما قال سيبويه: وقد قرأ ناس * (والسارق والسارقة) * * (والزانية والزاني) * النور [2] وهو في العربية على ما ذكرت لك من القوة، ولكن أبت العامة إلا القراءة بالرفع، ويعني سيبويه بقوله: من القوة لو عري من الفاء المقدر دخولها على خبر الاسم المرفوع على الابتداء، وجملة الأمر خبره، ولكن أبت العامة أي: جمهور القراء إلا الرفع، لعلة دخول الفاء، إذ لا يصح أن تكون جملة الأمر خبرا لهذا المبتدأ، فلما دخلت الفاء رجح الجمهور الرفع، ولذلك لما ذكر سيبويه، اختيار النصب في الأمر والنهي لم يمثله بالفاء، بل عاريا مثلا، قال سيبويه: وذلك قولك: زيدا اضربه، وعمرا امرر به، وخالدا اضرب أباه، وزيدا اشتر له ثوبا، ثم قال: وقد يكون في الأمر والنهي أن يبني الفعل على الاسم، وذلك قوله: عبد الله فاضربه، ابتدأت عبد الله، فرفعت بالابتداء، ونبهت المخاطب له ليعرفه باسمه، ثم بينت الفعل عليه، كما فعلت ذلك في الخبر، فإذا قلت: زيدا فاضربه، لم يستقم، لم تحمله على الابتداء، ألا ترى أنك لو قلت: زيد فمنطلق، لم يستقم، فهذا دليل على أنه لا يجوز أن يكون مبتدأ، يعني مخبرا عنه بفعل الأمر المقرون بالفاء، الجائز دخولها على الخبر، ثم قال سيبويه: فإن شئت نصبته على شيء هذا يفسره، لما منع سيبويه الرفع فيه على الابتداء، وجملة الأمر خبره لأجل الفاء، أجاز نصبه على الاشتغال، لا على أن الفاء هي الداخلة في خبر المبتدأ، وتلخيص ما يفهم من كلام سيبويه: أن الجملة الراقعة أمرا بغير فاء بعد اسم يختار فيه النصب، ويجوز فيه الابتداء، وجملة الأمر خبره، فإن دخلت عليه الفاء، فإما أن تقدرها الفاء الداخلة على الخبر، أو عاطفة، فإن قدرتها الداخلة على الخبر فلا يجوز أن يكون ذلك الاسم مبتدأ، وجملة الأمر خبره، إلا إذا كان المبتدأ أجرى مجرى الاسم الشرط لشبهه به، وله شروط ذكرت في النحو، وإن كانت عاطفة كان ذلك الاسم مرفوعا، إما مبتدأ كما تأول سيبويه، في قوله * (والسارق والسارقة) * وإما خبر مبتدأ محذوف، كما قيل: القمر والله فانظر إليه، والنصب على هذا المعنى دون الرفع، لأنك إذا نصبت احتجت إلى جملة فعلية تعطف عليها بالفاء، وإلى حذف الفعل الناصب، وإلى تحريف الفاء إلى غير محلها، فإذا قلت: زيدا فاضربه، فالتقدير: تنبه فاضرب زيدا اضربه، حذفت تنبه، وحذفت اضرب، وأخرت الفاء إلى دخولها على المفسر، وكان الرفع أولى، لأنه ليس فيه إلا حذف مبتدأ، أو حذف خبر، فالمحذوف أحد جزأي الإسناد فقط، والفاء واقعة في مواقعها، ودل على ذلك المحذوف سياق الكلام، والمعنى: قال سيبويه: وأما قوله عز وجل: * (الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما) * النور [2] * (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما) * فإن هذا لم يبين على الفعل، ولكنه جاء على مثل قوله تعالى * (مثل الجنة التي وعد المتقون) * محمد [15] ثم قال بعد * (فيها أنهار) * محمد [15] فيها كذا وكذا، فإنما وضع مثل للحديث الذي بعده، وذكر بعد أخبار وأحاديث، كأنه قال: ومن القصص مثل الجنة، أو مما نقص عليكم مثل الجنة، فهو محمول على هذا الإضمار، أو نحوه والله أعلم] وكذلك * (الزانية والزاني) * لما قال تعالى * (سورة أنزلناها وفرضناها) * قال في الفرائض * (الزانية والزاني) * أو الزانية والزاني في الفرائض، ثم قال * (فاجلدوا) * فجاء بالفعل بعد أن مضى فيها الرفع، كما قال:
* وقائلة خولان فانكح فتاتهم *
(٤٩١)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 486 487 488 489 490 491 492 493 494 495 496 ... » »»