تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٣ - الصفحة ٤٩٢
فجاء بالفعل بعد أن عمل فيه الضمير، وكذلك * (السارق والسارقة) * كأنه قال: ومما فرض عليكم السارق والسارقة، أو السارق والسارقة، فيما فرض عليكم، وإنما جاءت هذه الأسماء بعد قصص وأحاديث انتهى، فسيبويه إنما اختار هذا التخريح، لأنه أقل كلفة من النصب، مع وجود الفاء، وليست الفاء الداخلة في خبر المبتدأ، لأنه سيبويه لا يجيز ذلك في أل الموصولة، فالإتيان عنده من باب، زيد فاضربه، فكما أن المختار في هذا الرفع، فكذلك في الآيتين، وقول الرازي: لوجب أن يكون في القراء من قرأ * (واللذان يأتيانها منكم فآذوهما) * النساء [16] بالنصب إلى آخر كلامه، لم يقل سيبويه: إن النصب في مثل هذا التركيب أولى، فيلزم أن يكون في القراء من ينصب، * (واللذان يأتيانها) * بل حل سيبويه هذا الآية محل قوله * (والسارق والسارقة) * لأنه تقدم قبل ذلك ما يدل على المحذوف، وهو قوله * (واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم) * النساء [15] فخرج سيبويه الآية على الإضمار، وقال سيبويه: وقد يجري هذا في زيد وعمرو على هذا الحد إذا كنت تخبر بأشياء، أو توصي، ثم تقول: زيد أي زيد فيمن أوصى، فأحسن إليه وأكرمه، ويجوز في * (واللذان يأتيانها منكم) * النساء [16] أن يرتفع على الابتداء، والجملة التي فيها الفاء خبر، لأنه موصول مستوف شروط الموصول الذي يجوز دخول الفاء في خبره، لشبهه باسم الشرط، بخلاف قوله * (السارق والسارقة) * فإنه لا يجوز عند سيبويه دخول الفاء في خبره، لأنه لا يجري مجرى اسم الشرط، فلا يشبه به في دخول الفاء، قال الفخر الرازي: الثالث: يعني من وجوه فساد قول سيبويه أنا إنما قلنا: * (السارق والسارقة) * مبتدأ، وخبره هو الذي يضمره، وهو قولنا فيما يتلى عليكم، وفي شيء تتعلق به الفاء في قوله * (فاقطعوا أيديهما) * قلت: تقدم لنا حكمة المجيء بالفاء، وما ربطت، وقد قدره سيبويه: ومما فرض عليكم السارق والسارقة، والمعنى: حكم السارق والسارقة، لأنها آية جاءت بعد ذكر جزاء المحاربين وأحكامهم، فناسب تقدير سيبويه، وجئ بالفاء رابطة الجملة الثانية بالأولى، والثانية جاءت موضحة للحكم المبهم فيما قبل ذلك، قال الفخر الرازي: فإن قال يعني سيبويه: الفاء تتعلق بالفعل الذي دل عليه، قوله * (والسارق والسارقة) * يعني أنه إذا أتى بالسرقة فاقطعوا يده فنقول: إذا احتجت في آخر الأمر أن تقول * (السارق والسارقة) * تقديره: من سرق فاذكر هذا أولا، حتى لا يحتاج إلى الإضمار الذي ذكرته، قلت: هذا لا يقوله سيبويه، وقد بينا حكم الفاء وفائدتها، فقال الفخر الرازي: الرابع: يعني من وجوه فساد قوله سيبويه، إذا اخترنا القراءة بالنصب لم تدل على أن السرقة علة الوجوب القطع، وإذا اخترنا القراءة بالرفع أفادت الآية هذا المعنى، ثم إن هذا المعنى متأكد بقوله * (جزاء بما كسبا) * المائدة [38] فثبت أن القراءة بالرفع أولى، قلت: هذا عجيب من هذا الرجل، يزعم أن النصب لا يشعر بالعلة الموجبة للقطع، ويفيدها الرفع، وهل هذا إلا من التعليل بالوصف المترتب عليه الحكم، فلا فرق في ذلك بين الرفع والنصب، لو قلت: السارق ليقطع، أو اقطع السارق لم يكن بينهما فرق من حيث التعليل، وكذلك الزاني ليجلد، أو اجلد الزاني، ثم قوله: إن هذا المعنى متأكد بقوله * (جزاء بما كسبا) * النصب أيضا يحسن أن يؤكد بمثل هذا، لو قلت: اقطع اللص جزاء بما كسب صح، وقال الفخر الرازي: الخامس: يعني من وجوه فساد قول سيبويه، أن سيبويه قال: وهم يقدمون الأهم فالأهم، والذي هم ببيانه أعني، فالقراءة بالرفع تقتضي ذكر كونه سارقا على ذكر وجوب القطع، وهذا يقتضي أن يكون أكثر العناية مصروفا إلى شرح ما يتعلق بحال السارق من حيث إنه سارق، وأما القراءة بالنصب، فإنها تقتضي أن تكون العناية ببيان القطع أتم من العناية بكونه سارقا، ومعلوم أنه ليس كذلك، فإن المقصود في هذه الآية بيان تقبيح السرقة، والمبالغة في الزجر عنها، فثبت أن القراءة بالفرع هي المتعينة قطعا قلت: الذي ذكر فيه سيبويه أنهم كانوا يقدمون الذي بيانه أهم لهم، وهم ببيانه أعني هو ما اختلفت فيه نسبة الإسناد كالفاعل والمفعول، قال سيبويه: فإن قدمت المفعول وأخرت الفاعل جرى اللفظ كما جرى في الأول، يعني: في ضرب عبد الله زيدا، قال: وذلك ضرب زيدا عبد الله، لأنك إنما أردت به مؤخرا ما أردت به مقدما، ولم ترد أن تشغل الفعل بأول
(٤٩٢)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 487 488 489 490 491 492 493 494 495 496 497 ... » »»