تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٣ - الصفحة ٤٩٣
منه، وإن كان مؤخرا في اللفظ، فمن كان حد اللفظ أن يكون فيه مقدما، وهو عربي جيد كثير، كأنهم يقدمون الذي بيانه لهم أهم، وهم ببيانه أعني، وإن كان جميعا يهمانهم ويعنيانهم انتهى، والرازي حرف كلام سيبويه، وأخذه حيث لا يتصور اختلاف نسبه، وهو المبتدأ والخبر، فإنه ليس في إلا نسبة واحدة، بخلاف الفاعل والمفعول، لأن المخاطب قد يكون له غرض في ذكر من صدر منه الضرب، فيقدم الفاعل، أو في ذكر من حل به الضرب فيقدم المفعول، لأنه نسبة الضرب مختلفة بالنظر إليهما، وأما الآية فهي من باب ما النسبة فيه لا تختلف، إنما هي الحكم على السارق بقطع يده، وما ذكره الرازي لا يتفرع على كلام سيبويه بوجه، والعجب من هذا الرجل، وتجاسره على العلوم حتى صنف في النحو كتابا سماه المحرر، وسلك فيه طريقة غريبة بعيدة من مصطلح أهل النحو، ومن مقاصدهم، وهو كتاب لطيف محتو على بعض أبواب العربية، وقد سمعت شيخنا أبا جعفر بن الزبير يذكر هذا التصنيف، ويقول: إنه ليس جاريا على مصطلح القوم، وأن ما سلكه في ذلك من التخطيط في العلوم، ومن غلب لعيه فن ظهر فيما يتكلم به من غير ذلك الفن، أو قريبا منه من هذا المعنى، ولما وقفت على هذا الكتاب بديار مصر رأيت ما كان الأستاذ أبو جعفر يذم من هذا الكتاب، ويستنزل عقل فخر الدين في كونه صنف في علم وليس من أهله، وكان أبو جعفر يقول: لكل علم حد ينتهي إليه، فإذا رأيت متكلما في فن ما، ومزجه بغيره، فاعلم أن ذلك إما أن يكون من تخليطه وتخبيط ذهنه، وإما أن يكون من قلة محصوله، وقصوره في ذلك العلم، فتجده يستريح إلى غيره مما يعرفه، وقال الزمخشري بعد أن ذكر مذهب سيبويه في إعراب * (السارق والسارقة) * ما نصه: ووجه آخر، وهو أن يرتفعا بالابتداء والخبر * (فاقطعوا أيديهما) * ودخول الفاء لتضمنها عيسى بن عمر بالنصب، وفضلها سيبويه على قراءة العامة لأجل الأمر، لأن زيدا فاضربه أحسن من زيد فاضربه أحسن من زيد فاضربه انتهى، وهذا الوجه الذي أجازه وإن كان ذهب إليه بعضهم لا يجوز عند سيبويه، لأن الموصول لم يوصل بجملة تصلح لأداة الشرط ولا بما قام مقامها من ظرف أو مجرور، بل الموصول هنا أل، وصلة أل لا تصلح لأداة الشرط، وقد امتزج الموصول بصلته، حتى صار الإعراب في الصلة، بخلاف الظرف والمجرور، فإن العامل فيها جملة لا تصلح لأداة الشرط، وأما قوله في قراءة عيسى: إن سيبويه فضلها على قراءة العامة فليس بصحيح، بل الذي ذكر سيبويه في كتابه: أنهما تركيبان أحدهما: زيدا اضربه، والثاني: زيد فاضربه، فالتركيب الأول اختار فيه النصب، ثم جوزوا الرفع بالابتداء، والتركيب الثاني منع أن يرتفع بالابتداء، وتكون الجملة الأمرية خبرا له لأجل الفاء، وأجاز نصبه على الاشتغال، أو على الإغراء، وذكر أنه يستقيم رفعه على أن يكون جملتان، ويكون زيد خبر مبتدأ محذوف، أي: هذا زيد فاضربه، ثم ذكر الآية، فخرجها على حذف الخبر، ودل كلامه أن هذا التركيب هو لا يكون إلا على جملتين، الأولى ابتدائية، ثم ذكر قراءة ناس بالنصب، ولم يرجحها على قراءة العامة، إنما قال: وهي في العربية على ما ذكرت لك من القوة، أي: نصبها على الاشتغال و الإغراء، وهو قوي لا ضعيف، وقد منع سيبويه رفعه على الابتداء، والجملة الأمرية خبر لأجل الفاء، وقد ذكرنا الترجيح بين رفعه على أنه مبتدأ حذف خبره، أو خبر حذف مبتدؤه، وبين نصبه على الاشتغال، بأن الرفع يلزم فيه حذف خبر واحد، والنصب يلزم فيه حذف جملة وإضمار أخرى، وزحلقة الفاء عن موضعها، وظاهر قوله * (والسارق) * أنه لا يشترط حرز للمسروق، وبه قال داود والخوارج، وذهب الجمهور إلى أن شرط القطع إخراجه من الحرز، ولو جمع الثياب في البيت ولم يخرجها لم يقطع، وقال الحسن: يقطع، والظاهر اندراج كل من يسمى سارقا في عموم * (والسارق والسارقة) * ولكن الإجماع منعقد على أن الأب إذا سرق من ماله ابنه لا يقطع الابن، وقال عبد الله بن الحسن: إن كان يدخل عليهما فلا قطع، وإن كانا ينهيانه على الدخول قطع، ولا يقطع ذوو المحارم عند أبي
(٤٩٣)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 488 489 490 491 492 493 494 495 496 497 498 ... » »»