تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٣ - الصفحة ٤٩٠
وما كان هكذا لا تدخل الفاء في خبره عند سيبويه، وقد أجاز ذلك جماعة من البصريين، أعني: أن يكون * (والسارق والسارقة) * مبتدأ، والخبر جملة الأمر أجروا أل وصلتها مجرى الموصول المذكور، لأن المعنى فيه على العموم، إذ معناه: الذي سرق والتي سرقت، ولما كان مذهب سيبويه أنه لا يجوز ذلك تأويله على إضمار الخبر، فيصير تأوله فيما فرض عليكم حكم السارق والسارقة، جملة ظاهرها أن تكون مستقلة، ولكن المقصود هو في قوله * (فاقطعوا) * فجيء بالفاء رابطة للجملة الثانية، فالأولى موضحة للحكم المبهم في الجملة الأولى [وقرأ عيسى بن عمر وابن أبي عبلة * (والسارق والسارقة) * بالنصب على الاشتغال، قال سيبويه: الوجه في كلام العرب النصب، كما تقول: زيدا فاضربه، ولكن أبت العامة إلا الرفع، يعني عامة القراء وجلهم، ولما كان معظم القراء على الرفع تأويله سيبويه على وجه يصح، وهو أنه جعله مبتدأ، والخبر محذوف، لأنه لو جعله مبتدأ والخبر * (فاقطعوا) * لكان تخريجا على غير الوجه في كلام العرب، ولكان قد تدخل الفاء في خبر أل، وهو لا يجوز عنده، وقد تجاسر أبو عبد الله محمد بن عمر، المدعو بالفخر الرازي ابن خطيب الري على سيبويه، وقال عنه ما لم يقله، فقال: الذي ذهب إليه سيبويه ليس بشيء، ويدل على فساده وجوه، الأول: أنه طعن في القراءة المنقولة بالمتواتر عن الرسول، وعن أعلام الأمة، وذلك باطل قطعا، قلت: هذا تقول على سيبويه، وقلة فهم عنه، ولم يطعن سيبويه على قراءة الرفع، بل وجهها التوجيه المذكور، وافهم أن المسألة ليست من باب الاشتغال المبني على جواز الابتداء فيه، وكون جملة الأمر خبره، أو لم ينصب الاسم، إذ لو كانت منه لكان النصب أوجه، كما كان في، زيدا اضربه، على ما تقرر في كلام العرب، فكون جمهور القراء عدلوا إلى الرفع، دليل على أنهم لم يجعلوا الرفع فيه على الابتداء المخبر عنه بفعل الأمر، لأنه لا يجوز ذلك لأجل الفاء، فقوله: أبت العامة إلا الرفع، تقوية لتخريجه، وتوهين للنصب على الاشتغال مع وجود الفاء، لأن النصب على الاشتغال المرجح على الابتداء في مثل هذا التركيب لا يجوز إلا إذا جاز أن يكون مبتدأ مخبرا عنه بالفعل الذي يفسر العامل في الاشتغال، وهنا لا يجوز ذلك لأجل الفاء الداخلة على الخبر، فكان ينبغي أن لا يجوز النصب، فمعنى كلام سيبويه: يقوي الرفع على ما ذكر، فكيف يكون طاعنا في الرفع، وقد قال سيبويه: وقد يحسن ويستقيم، عبد الله فاضربه، إذا كان مبنيا على مبتدأ مضمر، أو مظهر، فأما في المظهر فقولك: هذا زيد فاضربه، وإن شئت لم تظهر هذا، ويعمل عمله إذا كان مظهرا، وذلك قولك: الهلال والله فانظر إليه، فكأنك قلت: هذا الهلال، ثم جئت بالأمر، ومن ذلك قول الشاعر:
* وقائلة خولان فانكح فتاتهم * وأكرومة الحيين خلو كما هيا * هكذا سمع من العرب تنشده انتهى، فإذا كان سيبويه يقول: وقد يحسن ويستقيم، عبد الله فاضربه، فكيف يكون طاعنا في الرفع، وهو يقول: إنه يحسن ويستقيم، لكنه جوزه على أن يكون المرفوع مبتدأ محذوف الخبر، كما تأوله في * (السارق والسارقة) * أو خبر مبتدأ محذوف، كقوله: الهلال والله فانظر إليه، وقال الفخر الرازي، فإن قلت: يعني سيبويه، لا أقول إن القراءة بالرفع غير جائزة، ولكني أقول: القراءة بالنصب أولى، فنقول له: هذا أيضا رديء، لأن ترجيح القراءة التي لم يقرأ بها عيسى بن عمر على قراءة الرسول، وجميع الأمة في عهد الصحابة والتابعين أمر منكر مردود قلت: هذا السؤال لم يقله سيبويه، ولا هو ممن يقوله، كيف يقوله، وهو قد رجح قراءة الرفع على ما أوضحناه، وأيضا فقوله: لأن ترجيح القراءة التي لم يقرأ بها إلا عيسى بن عمر، على قراءة الرسول، وجميع الأمة في عهد الصحابة والتابعين
(٤٩٠)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 485 486 487 488 489 490 491 492 493 494 495 ... » »»