وغصب المال. فأما نوازل الأحكام التي لا تظالم، ويتسلط عليهم في تغيير، ومن ذلك جنس السلع المبيعة وغصب المال. فأما نوازل الأحكام التي لا تظالم فيها، وإنما هي دعاء ومحتملة، فهي التي يخير فيها الحاكم انتهى. وفيه بعض تلخيص. وظاهر الآية يدل على مجيء المتداعيين إلى الحاكم، ورضاهما يحكمه كاف في الإقدام على الحكم بينهما. وقال ابن القاسم: لا بد مع ذلك من رضا الأساقفة والرهبان، فإن رضي الأساقفة دون الخصمين، أو الخصمان دون الأساقفة، فليس له أن يحكم. وقال ابن عباس، ومجاهد، والحسن، والزهري، وغيرهم: فإن جاؤوك يعني أهل نازلة الزانيين، ثم الآية تتناول سائر النوازل. وقال قوم: في قتيل اليهود من قريظة والنضير. وقال قوم: التخيير مختص بالمعاهدين لازمة لهم. ومذهب الشافعي: أنه يجب على حاكم المسلمين أن يحكم بين أهل الذمة إذا تحاكموا إليه، لأن في إمضاء حكم الإسلام عليهم صغارا لهم، فأما المعاهدون الذين لهم مع المسلمين عهد إلى مدة فليس بواجب عليه أن يحكم بينهم، بل يتخير في ذلك، وهو التخيير الذي في الآية وهو مخصوص بالمعاهدين. وروي عن الشافعي مثل قول عطاء والنخعي.
* (وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا) * أي أنت آمن من ضررهم، منصور عليهم على كل حال. وكانوا يتحاكمون إليه لطلب الأيسر والأهون عليهم، فالجلد مكان الرجم، فإذا أعرض عنهم وأبى الحكومة بينهم شق عليهم وتكرهوا إعراضه عنهم، وكانوا خلقاء بأن يعادوه ويضروه، فأمنه الله منهم، وأخبره أنهم ليسوا قادرين على شيء من ضرره.
* (وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط) * أي: وإن أردت الحكم بالقسط بالعدل كما تحكم بين المسلمين. والقسط: هو المبين في قوله: * (وأن احكم بينهم بما أنزل الله) *، وهو صلى الله عليه وسلم) لا يحكم إلا بالقسط، فهو أمر معناه الخبر أي: فحكمك لا يقع إلا بالعدل، لأنك معصوم من اتباع الهوى.
* (إن الله يحب المقسطين) * وأنت سيدهم، فمحبته إياك أعظم من محبته إياهم. وفيه حث على توخي القسط وإيثاره، حيث ذكر الله أنه يحب من اتصف به.
* (وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله) * هذا تعجيب من تحكيمهم إياه مع أنهم لا يؤمنون به ولا بكتابه. وفي كتابهم الذي يدعون الإيمان به حكم الله تعالى نص جلي، فليسوا قاصدين حكم الله حقيقة، وإنما قصدوا بذلك أن يكون عنده صلى الله عليه وسلم) رخصة فيما تحاكموا إليه فيه اتباعا لأهوائهم، وأنهماكا في شهواتهم. ومن عدل عن حكم الله في كتابه الذي يدعي أنه مؤمن به إلى تحكيم من لا يؤمن به ولا بكتابه، فهو لا يحكم إلا رغبة فيما يقصده من مخالفة كتابه. وإذا خالفوا كتابهم لكونه ليس على وفق شهواتهم، فلأن يخالفوك إذا لم توافقهم أولى وأحرى. والواو في: وعندهم، للحال وعندهم التوراة مبتدأ وخبر، وقوله: فيها. حكم الله، حال من التوراة، وارتفع حكم على الفاعلية بالجار والمجرور أي: كائنا فيها حكم الله. ويجوز أن يكون فيها في موضع رفع خبرا عن التوراة كقولك: وعندهم التوراة ناطقة بحكم الله. وأو لا محل له، وتكون جملة مبينة، لأن عندهم ما يغنيهم عن التحكيم كما تقول: عندك زيد ينصحك ويشير عليك بالصواب فما تصنع بغيره؟ وهذان الإعرابان للزمخشري.
* (ثم يتولون من بعد ذالك) * أي من بعد تحكيمك الموافق لما في كتابهم، لأن التعجيب من التحكيم إنما كان بعد صدوره منهم، ثم تولوا عنه ولم يرضوا به. وقال ابن عطية: من بعد ذلك، أي من بعد حكم الله في التوراة وما أشبهه من الأمور التي خالفوا فيها أمر الله انتهى. وهذه الجملة مستأنفة أي: ثم هم يتولون بعد. وهي أخبار من الله بتوليهم على عادتهم في أنهم إذا وضح لهم الحق أعرضوا عنه وتولوا. قال الزمخشري: (فإن قلت): علام عطف ثم يتولون؟ (قلت): على يحكمونك انتهى. ويكون إذ ذاك داخلا في الاستفهام الذي يراد به التعجب، أي ثم كيف يتولون بعد ذلك، فيكون قد تعجب من تحكيمهم إياه، ثم من توليهم عنه. أي: كيف رضوا به ثم سخطوه؟.
* (وما أولئك بالمؤمنين) * ظاهره نفي الإيمان عنهم، أي: من حكم الرسول، وخالف كتابه، وأعرض عما حكم له، إذ وافى كتابه فهو كافر. وقيل: هو إخبار عنهم أنهم لا يؤمنون