تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٣ - الصفحة ٤٢
انتفائهما. وألا متعد إلى واحد بحرف الجر، يقال: ما ألوت في الأمر أي ما قصرت فيه. وقيل: انتصب خبالا على التمييز المنقول من المفعول، كقوله تعالى: * (وفجرنا الارض عيونا) * التقدير: لا يألونكم خبالكم، أي في خبالكم. فكان أصل هذا المفعول حرف الجر. وقيل: انتصابه على إسقاط حرف، التقدير: لا يألونكم في تخبيلكم. وقيل: انتصابه على أنه مصدر في موضع الحال. قال ابن عطية: معناه لا يقصرون لكم لكم فيما فيه الفساد عليكم. فعلى هذا يكون قد تعدى للضمير على إسقاط اللام، وللخبال على إسقاط في. وقال الزمخشري: يقال: ألا في الأمر يألو إذا قصر فيه، ثم استعمل معدي إلى مفعولين في قولهم: لا آلوك نصحا، ولا آلوك جهدا، على التضمين. والمعنى: لا أمنعك نصحا ولا أنقصكه انتهى.
* (ودوا ما عنتم) * قال ابن جرير: ودوا إضلالكم. وقال الزجاج: مشقتكم. وقال الراغب: المعاندة والمعانتة يتقاربان، لكن المعاندة هي الممانعة، والمعانتة أن تتحرى مع الممانعة المشقة انتهى. ويقال: عنت بكسر النون، وأصله انهياض العظم بعد جبره. وما في قوله: ما عنتم مصدرية، وهذه الجملة مستأنفة كما قلنا في التي قبلها. وجوزوا أن يكون نعتا لبطانة، وحالا من الضمير في يألونكم، وقد معه مرادة.
* (قد بدت البغضاء من أفواههم) * وقرأ عبد الله: قد بدا، لأن الفاعل مؤنث مجازا أو على معنى البغض، أي لا يكتفون ببغضكم بقلوبهم حتى يصرحوا بذلك بأفواههم. وذكر الأفواه دون الألسنة إشعارا بأن ما تلفظوا به يملأ أفواههم، كما يقال: كلمة تملأ الفم إذا تشدق بها. وقيل: المعنى لا يتمالكون مع ضبطهم أنفسهم وتحاملهم عليها أن ينفلت من ألسنتهم ما يعلم به بغضهم للمسلمين انتهى.
ولما ذكر تعالى ما انطووا عليه من ودادهم عنت المؤمنين، وهو إخبار عن فعل قلبي، ذكر ما أنتجه ذلك الفعل القلبي من الفعل البدني، وهو: ظهور البغض منهم للمؤمنين في أقوالهم، فجمعوا بين كراهة القلوب وبذاذة الألسن. ثم ذكر أن ما أبطنوه من الشر والإيذاء للمؤمنين والبغض لهم أعظم مما ظهر منهم فقال:
* (وما تخفى صدورهم أكبر) * أي أكثر مما ظهر منها. والظاهر أن بدو البغضاء منهم هو للمؤمنين، أي اظهروا للمؤمنين البغض. وقال قتادة: قد بدت البغضاء لأوليائهم من المنافقين والكفار لاطلاع بعضهم بعضا على ذلك. وقيل: بدت بإقرارهم بعد الجحود، وهذه صفة المجاهر. وأسند الإخفاء إلى الصدور مجازا، إذ هي محال القلوب التي تخفي كما قال: * (فإنها لا تعمى الابصار ولاكن تعمى القلوب التى فى الصدور) *.
* (قد بينا لكم الايات) * أي الدالة على وجوب الإخلاص في الدين، وموالاة المؤمنين، ومعاداة الكفار.
* (إن كنتم تعقلون) * أي ما بين لكم فعملتم به، أو إن كنتم عقلاء وقد علم تعالى أنهم عقلاء، لكن علقه على هذا الشرط على سبيل الهز للنفوس كقولك: إن كنت رجلا فافعل كذا. وقال ابن جرير: معناه إن كنتم تعقلون عن الله أمره ونهيه. وقيل: إن كنتم تعقلون فلا تصافوهم، بل عاملوهم معاملة الأعداء. وقيل: معنى إن معنى إذ أي إذ كنتم عقلاء.
* (هاأنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم وتؤمنون بالكتاب كله) * تقدم لنا الكلام على نظيرها، أنتم أولاء في قوله: * (هأنتم هاؤلاء حاججتم) * قراءة وإعرابا. وتلخيصه هنا أن يكون أولاء خبرا عن أنتم، وتحبونهم مستأنف أو حال أو صلة، على أن يكون أولاء موصولا أو خبرا لأنتم، وأولاء منادا، أو يكون أولاء مبتدأ ثانيا، وتحبونهم خبر عنه، والجملة خبر عن الأول. أو يكون أولاء في موضع نصب نحو: أنا زيدا ضربته، فيكون من الاشتغال. واسم الإشارة في هذين الوجهين واقع على غير ما وقع عليه أنتم، لأن أنتم خطاب للمؤمنين، وأولاء إشارة إلى الكافرين. وفي الأوجه السابقة مدلوله ومدلول أنتم واحد. وهو: المؤمنون. وعلى تقدير الاستئناف في تحبونهم، لا ينعقد مما قبله مبتدأ وخبر إلا بإضمار وصف تقديره: أنتم أولاء الخاطئون في موالاة غير المؤمنين إذ تحبونهم ولا يحبونكم. بيان لخطئهم في موالاتهم حيث يبذلون المحبة لمن يبغضهم،
(٤٢)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 ... » »»