تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٣ - الصفحة ٤٠
ينفقون فى هاذه الحيواة الدنيا كمثل ريح فيها صر أصابت حرث قوم ظلموا أنفسهم فأهلكته) * لما ذكر تعالى أن ما فعله المؤمنون من الخير فإنهم لا يحرمون ثوابه، بل يجنون في الآخرة ثمرة ما غرسوه في الدنيا، أخذ في بيان نفقة الكافرين، فضرب لها مثلا اقتضى بطلانها وذهابها مجانا بغير عوض. قال مجاهد: نزلت في نفقات الكفار وصدقاتهم. وقال مقاتل: في نفقات سفلة اليهود على علمائهم. وقيل: في نفقة المشركين يوم بدر. وقيل: في نفقة المنافقين إذا خرجوا مع المسلمين لحرب المشركين. قال الزمخشري: شبه ما كانوا ينفقونه من أموالهم في المكارم والمفاخر وكسب الثناء وحسن الذكر بين الناس لا يبتغون به وجه الله بالزرع الذي حسه البرد فصار حطاما. وقيل: هو ما يتقربون به إلى الله مع كفرهم. وقيل: ما أنفقوا في عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم) لأنهم لم يبلغوا بإنفاقه ما أنفقوه لأجله انتهى.
وقال ابن عطية: معناه المثال القائم في النفس من إنفاقهم الذي يعدونه قربة وحسبة وتحنثا، ومن حبطة يوم القيامة وكونه هباء منثورا، وذهابه كالمثال القائم في النفس. من زرع قوم نبت واخصر وقوي الأمل فيه فهبت عليه ريح صر محرق فأهلكته انتهى. والظاهر أن ما في قوله: مثل ما ينفقون موصولة، والعائد محذوف، أي ينفقونه. والظاهر تشبيه ما ينفقونه بالريح، والمعنى: تشبيهه بالحرث. فقيل: هو من التشبيه المركب لم يقابل فيه الإفراد بالإفراد، وقد مر نظيره في قوله تعالى: * (مثلهم كمثل الذى استوقد نارا) * ولذلك قال ثعلب: بدأ بالريح، والمعنى على الحرث، وهو اختيار الزمخشري. وقيل: وقع التشبيه بين شيئين وشيئين، وذكر أحد المشبهين وترك ذكر الآخر، ثم ذكر أحد الشيئين المشبه بهما وليس الذي يوازن المذكور الأول وترك ذكر الآخر، ودل المذكوران على المتروكين. وهذا اختيار ابن عطية. قال: وهذه غاية البلاغة والإعجاز، ومثل ذلك قوله تعالى: * (ومثل الذين كفروا كمثل الذى ينعق) * انتهى. ويجوز أن يكون على حذف مضاف من الأول تقديره: مثل مهلك ما ينفقون. أو من الثاني تقديره: كمثل مهلك ريح. وقيل: يجوز أن تكون ما مصدرية، أي مثل إنفاقهم، فيكون قد شبه المعقول بالمحسوس، إذ شبه الإنفاق بالريح. وظاهر قوله: ينفقون أنه من نفقة المال. وقال السدي: معناه ينفقون من أقوالهم التي يبطنون ضدها. ويضعف هذا أنها في الكفار الذين يعلنون لا في المنافقين الذين يبطنون. وقيل: متعلق الإنفاق هو أعمالهم من الكفر ونحوه، هي كالريح التي فيها صر أبطلت أعمالهم كل ما لهم من صلة رحم وتحنث بعتق، كما يبطل الريح الزرع. قال ابن عطية: وهذا قول حسن، لولا بعد الاستعارة في الإنفاق انتهى. وقال الراغب: ومنهم من قال: ما ينفقون عبارة عن أعمالهم كلها، لكنه خص الإنفاق لكونه أظهروا أكثر انتهى.
وقرأ ابن هرمز والأعرج: تنفقون بالتاء على معنى قل لهم، وأفرد ريحا لأنها مختصة بالعذاب، كما أفردت في قوله: * (بل هو ما استعجلتم به ريح) * ولئن أرسلنا ريحا إنا أرسلنا عليهم ريحا صرصرا الريح العقيم. كما أن الجمع مختص بالرحمة أن يرسل الرياح مبشرات) * * (*) * * (وأرسلنا الرياح لواقح) * * (يرسل الرياح بشرا) * ولذلك روي: * (اللهم * بئاياتنا يجحدون * فأرسلنا عليهم ريحا) * وارتفاع صر على أنه فاعل بالمجرور قبله، إذ قد اعتمد بكونه وقع صفة للريح. فإن كان الصر البرد وهو قول: ابن عباس، والحسن، وقتادة، والسدي، أو
(٤٠)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 ... » »»