تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٣ - الصفحة ٤٣
وضمير المفعول في تحبونهم قالوا لمنافقي اليهود. وفي الزمخشري: لمنافقي أهل الكتاب. والذي يظهر أنه عائد على بطانة من دون المؤمنين، فهو كل منافق حتى منافق المشركين.
والمحبة هنا: الميل بالطبع لموضع القرابة والرضاع والحلف قاله ابن عباس. أو لأجل إظهار الإيمان والإحسان إلى المؤمنين قاله: أبو العالية: أو الرحمة لهم لما يقع منهم من المعاصي قاله: قتادة. أو إرادة الإسلام لهم قاله: المفضل والزجاج. وهذا ليس بجيد، لأنه لا يقع توبيخ على معنى إرادة إسلام الكافر، أو المصافاة، لأنها من ثمرة المحبة.
وتؤمنون بالكتاب كله، الكتاب: اسم جنس، أي بالكتب المنزلة قاله: ابن عباس. والتوراة والإنجيل أو التوراة أقوال ثلاثة، وثم جملة محذوفة تقديرها: ولا تؤمنون به كله بل يقولون: نؤمن ببعض ونكفر ببعض. يدل عليها إثبات المقابل في تحبونهم ولا يحبونكم. والواو في وتؤمنون للعطف على تحبونهم، فلها من الإعراب ما لها. وقال الزمخشري: والواو في وتؤمنون للحال، وانتصابها من لا يحبونكم أي لا يحبونكم. والحال: إنكم تؤمنون بكتابهم كله، وهم مع ذلك يبغضونكم، فما بالكم تحبونهم وهم لا يؤمنون بشيء من كتابكم؟ وفيه توبيخ شديد بأنهم في باطلهم أصلب منكم في حقكم ونحوه. فإنهم يألمون كما تألمون، وترجون من الله ما لا يرجون انتهى كلامه وهو حسن. إلا أنه فيه من الصناعة النحوية ما يخدشه، وهو: أنه جعل الواو في وتؤمنون للحال، وأنها منتصبة من لا يحبونكم. والمضارع المثبت إذا وقع حالا لا تدخل عليه واو الحال تقول: جاء زيد يضحك، ولا يجوز ويضحك. فأما قولهم: قمت وأصك عينه ففي غاية الشذوذ. وقد أول على إضمار مبتدأ أي قمت وأنا أصك عينه، فتصير الجملة اسمية. ويحتمل هذا التأويل هنا، أي: ولا يحبونكم وأنتم تؤمنون بالكتاب كله، لكن الأولى ما ذكرناه من كونها للعطف. قال ابن عطية: وتؤمنون بالكتاب كله يقتضي أن الآية في منافقي اليهود، لا منافقي العرب. ويعترضها: أن منافقي اليهود لم يحفظ عنهم أنهم كانوا يؤمنون في الظاهر إيمانا مطلقا ويكفرون في الباطن، كما كان المنافقون من العرب، إلا ما روي من أمر زيد بن الصيف القينقاعي. فلم يبق إلا أن قولهم: آمنا، معناه صدقنا أنه نبي مبعوث إليكم. أي فكونوا على دينكم ونحن أولياؤكم وأخوانكم لا نضمر لكم إلا المودة، ولهذا كان بعض المؤمنين يتخذهم بطانة. وهذا منزع قد حفظ أن كثيرا من اليهود كان يذهب إليه. ويدل على هذا التأويل أن المعادل لقولهم: آمنا غض الأنامل من الغيظ، وليس فيه ما يقتضي الارتداد كما في قوله: * (وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم) * بل هو ما يقتضي البغض وعدم المودة. وكان أبو الجوزاء إذا تلا هذه الآية قال: هم الأباضية. وهذه الصفة قد تترتب في أهل البدع من الناس إلى يوم القيامة انتهى كلامه. وما ذكر من أن منافقي اليهود لم يحفظ عنهم أنهم كانوا يؤمنون في الظاهر إيمانا مطلقا ويكفرون في الباطن إلا ما روي من أمر زيد فيه نظر، فإنه قد روى أن جماعة منهم كانوا يعتمدون ذلك، ذكره البيهقي وغيره. ولو لم يرو ذلك إلا عن زيد القينقاعي لكان في ذلك مذمة لهم بذلك، إذ وجد ذلك في جنسهم. وكثيرا ما تمدح العرب أو تذم بفعل الواحد من القبيلة، ويؤيد صدور ذلك من اليهود قوله تعالى: * (وقالت طائفة من أهل الكتاب ءامنوا بالذي أنزل على الذين ءامنوا وجه النهار واكفروا ءاخره) *.
(٤٣)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 ... » »»