تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٣ - الصفحة ٤٥
موتوا. وليس بدعاء، لأنه لو أمره بالدعاء لماتوا جميعهم على هذه الصفة، فإن دعوته لا ترد. وقد آمن منهم بعد هذه الآية كثير، وليس بخبر لأنه لو كان خبر الوقع على حكم ما أخبر به يعني ولم يؤمن أحد بعد، وإنما هو أمر معناه التوبيخ والتقريع كقوله: اعملوا ما شئتم، إذا لم تستحي فاصنع ما شئت. قيل: ويجوز أن لا يكون ثم قول، وإن يكون أمرا بطيب النفس وقوة الرجاء والاستبشار بوعد الله أن يهلكوا غيظا بإعزاز الإسلام وإذلالهم به، كأنه قيل: حدث نفسك بذلك.
* (إن الله عليم بذات الصدور) * قيل: يجوز أن يكون من جملة المقول، والمعنى: أخبرهم بما يسرونه من عضهم الأنامل غيظا إذا خلوا وقل لهم: إن الله عليم بما هو أخفى مما تسرونه بينكم وهو مضمرات الصدور، فلا تظنوا أن شيئا من أسراركم يخفى عليه. ويجوز أن لا تدخل تحت القول، ومعناه: قل لهم ذلك، ولا تتعجب من اطلاعي إياك على ما يسرون، فإني أعلم ما هو أخفى من ذلك وهو مضمرات صدورهم لم يظهروه بألسنتهم. والظاهر الأول أورد ذلك على أنه وعيد مواجهون به.
والذات لفظ مشترك ومعناه هنا أنه تأنيث ذي بمعنى صاحب. فاصله هنا عليم بالمضمرات ذوات الصدور، ثم حذف الموصوف، وغلبت إقامة الصفة مقامه. ومعنى صاحبة الصدور: الملازمة له التي لا تنفك عنه كما تقول: فلان صاحب فلان، ومنه أصحاب الجنة أصحاب النار. واختلفوا في الوقف على ذات. فقال الأخفش والفراء وابن كيسان: بالتاء مراعاة لرسم المصحف. وقال الكسائي والجرمي: بالهاء لأنها تاء تأنيث.
* (إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها) * الحسنة هنا ما يسر من رخاء وخصب ونصرة وغنيمة، ونحو ذلك من المنافع. والسيئة ضد ذلك. بين تعالى بذلك فرط عداوتهم حيث يسوءهم ما نال المؤمنين من الخير، ويفرحون بما يصيبهم من الشدة. قال الزمخشري: المس مستعار لمعنى الإصابة، فكان المعنى واحدا. ألا ترى إلى قوله: * (إن تصبك حسنة تسؤهم وإن تصبك مصيبة) * الآية * (ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك) * * (إذا مسه الشر جزوعا * وإذا مسه الخير منوعا) * وقال ابن عطية: ذكر الله تعالى المس في الحسنة ليبين أن بادني طروء الحسنة تقع المساءة بنفوس هؤلاء المبغضين، ثم عادل ذلك في السيئة بلفظ الإصابة، وهي عبارة عن التمكن. لأن الشيء المصيب لشيء هو متمكن منه، أو فيه. فدل هذا النوع البليغ على شدة العداوة، إذ هو حقد لا يذهب عند نزول الشدائد، بل يفرحون بنزول الشدائد بالمؤمنين انتهى كلامه. والنكرة هنا في سياق الشرط بأن تعم عموم البدل، ولم يأت معرفا لإيهام التعيين بالعهد، ولإيهام العموم الشمولي. وقابل الحسنة بالسيئة، والمساءة بالفرح وهي مقابلة بديعة.
قال قتادة والربيع وابن جريج: الحسنة بظهوركم على العدو، والغنيمة منهم، والتتابع بالدخول في دينكم، وخصب معاشكم. والسيئة بإخفاق سرية منكم، أو إصابة عدو منكم، أو اختلاف بينكم. وقال الحسن: الحسنة الألفة، واجتماع الكلمة. والسيئة إصابة العدو، واختلاف الكلمة. وقال ابن قتيبة: الحسنة النعمة. والسيئة المصيبة. وهذه الأقوال هي على سبيل التمثيل، وليست على سبيل التعيين.
* (وأن تصبروا * تتقوا * لا يضركم كيدهم شيئا) * قال ابن عباس: وإن تصبروا على أذاهم، وتتقوا الله، ولا تقنطوا، ولا تسأموا أذاهم وإن تكرر. وقال مقاتل: وإن تصبروا على أمر الله، وتتقوا مباطنتهم. وقال ابن عباس أيضا: وإن تصبروا على الإيمان وتتقوا الشرك. وقيل: وإن تصبروا على الطاعة وتتقوا المعاصي. وقيل: وإن تصبروا على حربهم. والذي يظهر أنه لم يذكر هنا متعلق الصبر، ولا متعلق التقوى. لكن الصبر هو حبس النفس على المكروه، والتقوى اتخاذ الوقاية من عذاب الله. فيحسن أن يقدر المحذوف من جنس ما دل عليه لفظ الصبر ولفظ التقوى. وفي هذا تبشير للمؤمنين، وتثبيت لنفوسهم، وإرشاد إلى الاستعانة على كيد العدو بالصبر والتقوى.
وقرأ الجمهور: أن تمسسكم
(٤٥)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 ... » »»