تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٣ - الصفحة ٤١
صوت لهيب النار أو صوت الريح الشديدة. فظاهر كون ذلك في الريح. وإن كان الصر صفة للريح كالصرصر، فالمعنى فيها قرة صر كما تقول: برد بارد، وحذف الموصوف، وقامت الصفة مقامه. أو تكون الظرفية مجازا جعل الموصوف ظرفا للصفة. كما قال: وفي الرحمن كاف للضعفاء. وقولهم: إن ضيعني فلان ففي الله كاف. المعنى الرحمن كاف، والله كاف. وهذا فيه بعد.
وقوله: أصابت حرث قوم في موضع الصفة لريح. بدأ أولا بالوصف بالمجرور، ثم بالوصف بالجملة. وقوله: ظلموا أنفسهم جملة في موضع الصفة لقوم. وظاهره أنهم ظلموا أنفسهم بمعاصيهم، فكان الإهلاك أشد إذ كان عقوبة لهم.
وقد ذهب جماعة من أهل العلم إلى أن مصائب الدنيا إنما هي بمعاصي العبد. ويستنبط ذلك من غير ما آية في القرآن، فيستقيم على ذلك أن كل حرث تحرقه الريح فإنما هو لمن قد ظلم نفسه. وقيل: ظلموا أنفسهم معناه زرعوا في غير أوان الزراعة، أي وضعوا أفعال الفلاحة غير موضعها من وقت أو هيئة عمل. وخص هؤلاء بالذكر لأن الحرث فيما جرى هذا المجرى أوعب وأشد تمكنا، ونحا إلى هذا القول المهدوي.
* (وما ظلمهم الله) * جوز الزمخشري وغيره أن يعود الضمير على المنفقين، أي: ما ظلمهم بأن لم تقبل نفقاتهم. وأن يعود على أصحاب الحرث أي: ما ظلمهم بإهلاك حرثهم، ولكن ظلموا أنفسهم بارتكاب المعاصي. وقال ابن عطية: الضمير في ظلمهم للكفار الذين تقدم ضميرهم في ينفقون، وليس هو للقوم ذوي الحرث، لأنهم لم يذكروا ليرد عليهم، ولا لتبين ظلمهم. وأيضا قوله: * (ولاكن كانوا أنفسهم يظلمون) *.
يدل على فعل الحال في حاضرين انتهى. وهو ترجيح حسن. وقرئ شاذا: ولكن بالتشديد، واسمها أنفسهم، والخبر يظلمون. والمعنى: يظلمونها هم. وحسن حذف هذا الضمير، وإن كان الحذف في مثله قليلا كون ذلك فاصلة رأس آية، فلو صرح به لزال هذا المعنى. ولا يجوز أن يعتقد أن اسم لكن ضمير الشأن. وحذف وأنفسهم مفعول بيظلمون، لأن حذف هذا الضمير يختص بالشعر.
* (يظلمون ياأيها الذين ءامنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا) * نزلت في رجال من المؤمنين يواصلون رجالا من يهود للجوار والحلف والرضاع قاله: ابن عباس. وقال أيضا هو وقتادة والسدي والربيع: نزلت في المنافقين. نهى الله المؤمنين عنهم شبه الصديق الصدق بما يباشر بطن الإنسان من ثوبه. يقال: له بطانة ووليجة. وقوله: من دونكم في موضع الصفة لبطانة، وقدره الزمخشري: من دون أبناء جنسكم، وهم المسلمون. وقيل: يتعلق من بقوله: لا تتخذوا. وقيل: من زائدة، أي بطانة دونكم. والمعنى: أنهم نهوا أن يتخذوا أصفياء من غير المؤمنين. ودل هذا النهي على المنع من استكتاب أهل الذمة وتصريفهم في البيع والشراء والاستبانه إليهم. وقد عتب عمر أبا موسى على استكتابه ذميا، وتلا عليه هذه الآية. وقد قيل لعمر في كاتب مجيد من نصارى الحيرة: ألا يكتب عنك؟ فقال: إذن أتخذ بطانة.
والجملة من قوله: * (لا يألونكم خبالا) * لا موضع لها من الإعراب، إذ جاءت بيانا لحال البطانة الكافرة، هي والجمل التي بعدها لتنفير المؤمنين عن اتخاذهم بطانة. ومن ذهب إلى أنها صفة للبطانة أو حال مما تعلقت به من، فبعيد عن فهم الكلام الفصيح. لأنهم نهوا عن اتخاذ بطانة كافرة، ثم نبه على أشياء مما هم عليه من ابتغاء الغوائل للمؤمنين، وودادة مشقتهم، وظهور بغضهم. والتقييد بالوصف أو بالحال يؤذن بجواز الاتخاذ عند
(٤١)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 ... » »»