تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٣ - الصفحة ٣٨
بعض نسائه فلم يأت حتى مضى الليل، فجاء ومنا المصلي ومنا المضطجع فقال: (أبشروا فإنه ليس أحد من أهل الكتاب يصلي هذه الصلاة) ولهذا السبب ذكر ابن مسعود أن قوله: ليسوا سواء عائد على اليهود وهذه الأمة، وهو خلاف الظاهر. والظاهر من قوله: وهم يسجدون أنه أريد به السجود في الصلاة. وقيل: عبر بالسجود عن الصلاة تسمية للشيء بجزء شريف منه، كما يعبر عنها بالركوع قاله: مقاتل، والفراء، والزجاج. لأن القراءة لا تكون في الركوع ولا في السجود، فعلى هذا تكون الجملة في موضع الحال، أي يتلون آيات الله متلبسين بالصلاة. وقيل: سجود التلاوة. وقيل: أريد بالسجود الخشوع والخضوع. وذهب الطبري وغيره إلى أنها جملة معطوفة من الكلام الأول، أخبر عنهم أيضا أنهم أهل سجود، ويحسنه أن كانت التلاوة في غير صلاة. ويكون أيضا على هذا التأويل في غير صلاة نعتا عدد بواو العطف، كما تقول: جاءني زيد الكريم والعاقل. وأجاز بعضهم في قوله: وهم يسجدون أن يكون حالا من الضمير في قائمة، وحالا من أمة، لأنها قد وصفت بقائمة. فتلخص في هذه الجملة قولان: أحدهما: أنها لا موضع لها من الإعراب، بأن تكون مستأنفة. والقول الآخر: أن يكون لها موضع من الإعراب ويكون رفعا بأن يكون في موضع الصفة، أو بأن يكون نصبا بأن يكون في موضع الحال، إما من الضمير في يتلون، أو من الضمير في قائمة، أو من أمة. ودلت هذه الآية على الترغيب في قيام الليل، وقد جاء في كتاب الله: * (ومن اليل فتهجد به نافلة لك) * * (أمن هو قانت ءاناء اليل ساجدا وقائما) * * (عددا يأيها المزمل قم اليل) *. وفي الحديث: (يا عبد الله لا تكن مثل فلان كان يقوم الليل فتركه وقبله، نعم الرجل عبد الله إلا أنه لا يقوم من الليل) وغير ذلك كثير. وعن رجل من بني شيبة كان يدرس الكتب قال: إنا نجد كلاما من كلام الرب عز وجل: أيحسب راعي إبل وغنم إذا جنه الليل انجدل كمن هو قائم وساجد الليل.
* (يؤمنون بالله واليوم * والاخر * ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر) * تقدم تفسير مثل هذه الجمل.
* (ويسارعون فى الخيرات) * المسارعة في الخير ناشئة عن فرط الرغبة فيه، لأن من رغب في أمر بادر إليه وإلى القيام به، وآثر الفور على التراخي. وجاء في الحديث: (اغتنم خمسا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك، وغناك قبل فقرك).
وصفهم تعالى بأنهم إذا دعوا إلى خير من نصر مظلوم، وإغاثة مكروب، وعبادة الله، بادروا إلى فعله. والظاهر في يؤمنون أن يكون صفة أي تالية مؤمنة. وجوزوا أن تكون الجملة مستأنفة، أو في موضع الحال من الضمير في يسجدون، وأن تكون بدلا من السجود. قيل: لأن السجود بمعنى الإيمان. قال الزمخشري: وصفهم بخصائص ما كانت في اليهود من تلاوة آيات الله بالليل ساجدين، ومن الإيمان بالله، لأن إيمانهم به كلا إيمان، لإشراكهم به عزيرا وكفرهم ببعض الكتب والرسل دون بعض، ومن الإيمان باليوم الآخر لأنهم يصفونه بخلاف صفته، ومن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لأنهم كانوا مداهنين، ومن المسارعة في الخيرات لأنهم كانوا متباطئين عنها غير راغبين فيها انتهى لامه. وهو حسن. ولما ذكر تعالى هذه الأمة وصفها بصفات ست: إحداها: أنها قائمة، أي مستقيمة على النهج القويم. ولما كانت الاستقامة وصفا ثابتا لها لا يتغير جاء باسم الفاعل. الثانية: الصلاة بالليل المعبر عنها بالتلاوة والسجود، وهي العبادة التي يظهر بها الخلو لمناجاة الله بالليل. الثالثة: الإيمان بالله واليوم الآخر، وهو الحامل على عبادة الله وذكر اليوم الآخر لأن فيه ظهور آثار عبادة الله من الجزاء الجزيل. وتضمن الإيمان باليوم الآخر الإيمان بالأنبياء،
(٣٨)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 ... » »»