تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٣ - الصفحة ٣٧
انتهى. وقد نازع السهيلي النحويين في قولهم: إنها لغة ضعيفة، وكثيرا ما جاءت في الحديث. والإعراب الأول هو الظاهر. وهو: أن يكون من أهل الكتاب أمة قائمة مستأنف بيان لانتفاء التسوية كما جاء * (يأمرون بالمعروف) * بيانا لقوله: * (كنتم خير أمة) * والمراد بأهل الكتاب واليهود والنصارى.
وأمة قائمة أي مستقيمة من أقمت العود فقام، أي استقام. قال مجاهد والحسن وابن جريج: عادلة. وقال ابن عباس وقتادة والربيع: قائمة على كتاب الله وحدوده مهتدية. وقال السدي: قانتة مطيعة، وكلها راجع للقول الأول.
وقال ابن مسعود والسدي: الضمير في ليسوا عائد على اليهود. وأمة محمد صلى الله عليه وسلم) إذ تقدم ذكر اليهود وذكر هذه الأمة في قوله: (كنتم خير أمة). والكتاب على هذا القول جنس كتب الله، وليس بالمعهود من التوراة والإنجيل فقط. والمراد بقوله: من أهل الكتاب أمة قائمة أهل القرآن. والظاهر عود الضمير على أهل الكتاب المذكورين في قوله: * (ولو ءامن أهل الكتاب) * لتوالي الضمائر عائدة عليهم فكذلك ضمير ليسوا. وقال عطاء: من أهل الكتاب أمة قائمة الآية يريد أربعين رجلا من أهل نجران من العرب، واثنين وثلاثين من الحبشة، وثمانية من الروم، كانوا على دين عيسى وصدقوا محمدا صلى الله عليه وسلم). وكان ناس من الأنصار موحدين ويغتسلون من الجنابة، ويقومون بما عرفوا من شرائع الحنيفية قبل قدوم النبي صلى الله عليه وسلم)، حتى جاءهم منه أسعد بن زرارة والبراء بن معرور ومحمد بن مسلمة وقيس بن صرمة بن أنس. * (يتلون ءايات الله ءاناء اليل وهم يسجدون) * وصف الأمة القائمة بأنها تالية آيات الله، وعبر بالتلاوة في ساعات الليل عن التهجد بالقرآن. وقوله: وهم يسجدون جملة في موضع الصفة أيضا معطوفة على يتلون، وصفهم بالتلاوة للقرآن وبالسجود. فتلاوة القرآن في القيام، وأما السجود فلم تشرع فيه التلاوة. وجاءت الصفة الثانية اسمية لتدل على التوكيد بتكرر الضمير وهو هم، والواو في يسجدون إذ أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد. وأخبر عن المبتدأ بالمضارع، وجاءت الصفة الأولى بالمضارع أيضا لتدل على التجدد، وعطفت الثانية على الأولى بالواو لتشعر بأن تلك التلاوة كانت في صلاة، فلم تكن التلاوة وحدها ولا السجود وحده.
وظاهر قوله: آناء الليل أنها جميع ساعات الليل. فيبعد صدور ذلك أعني التلاوة والسجود من كل شخص شخص، وإنما يكون ذلك من جماعة إذ بعض الناس يقوم أول الليل، وبعضهم آخره، وبعضهم بعد هجعة ثم يعود إلى نومه، فيأتي من مجموع ذلك في المدن والجماعات استيعاب ساعات الليل بالقيام في تلاوة القرآن والسجود، وعلى هذا كان صدر هذه الأمة. وعرف الناس القيام في أول الثلث الأخير من الليل، أو قبله بقليل، والقائم طول الليل قليل، وقد كان في الصالحين من يلتزمه، وقد ذكر الله القصد في ذلك في أول المزمل. وآناء الليل: ساعاته قاله الربيع وقتادة وغيرهما. وقال السدي: جوفه وهو من إطلاق الكل على الجزء، إذ الجوف فرد من الجمع. وعن منصور: أنها نزلت في المصلين بين العشاءين، وهو مخالف لظاهر قوله: * (يتلون ءايات الله ءاناء اليل) *. وعن ابن مسعود: أنها صلاة العتمة. وذكر أن سبب نزولها هو احتباك النبي صلى الله عليه وسلم) في صلاة العتمة وكان عند
(٣٧)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 ... » »»