قوله: فمن الله عليكم، هو من تمام كذلك كنتم من قبل. وقيل: من تمام تبتغون عرض الحياة الدنيا وما قبله، فالمعنى: من عليكم بأن قبل توبتكم عن ذلك الفعل المنكر قاله: أبو عبد الله الرازي، فتبينوا: تقدم أنه قرىء فتثبتوا، ويحتمل أن يكون هذا تأكيدا للأول، ويحتمل أن يكون فتبينوا في قراءة من جعله من التبين، أن لا يكون تأكيد الاختلاف متعلق التبين. فالمعنى في الأول: فتبينوا أمر من تقدمون على قتله، وفي الثاني: فتبينوا نعمة الله عليكم بالإسلام.
* (إن الله كان بما تعملون خبيرا) * أي خبيرا بنياتكم وطلباتكم، فكونوا محتاطين فيما تقصدونه، متوخين أمرالله تعالى. وهذا فيه تحذير، فاحفظوا أنفسكم من موارد الزلل. وقرأ الجمهور: إن بكسر الهمزة على الاستئناف، وقرئ بفتحها على أن تكون معمولة لقوله: * (فتبينوا) *.
* (لا يستوى القاعدون من المؤمنين غير أولى الضرر والمجاهدون فى سبيل الله بأموالهم وأنفسهم) * قال أبو سليمان الدمشقي: نزلت من أجل قوم كانوا إذا حضرت غزاة يستأذنون في القعود والتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم). وأما غير أولي الضرر فسببها قول ابن أم مكتوم: كيف من لا يستطيع الجهاد؟.
ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى لما رغب المؤمنين في القتال في سبيل الله أعداء الله الكفار، واستطرد من ذلك إلى قتل المؤمن خطأ وعمدا بغير تأويل وبتأويل، فنهى أن يقدم على قتله بتأويل أمر يحمله على الإسلام إذا كان ظاهره يدل على ذلك، ذكر بيان فضل المجاهد على القاعد، وبيان تفاوتهما، وأن ذلك لا يمنع منه كون الجهاد، مظنة أن يصيب المجاهد مؤمنا خطأ، أو من يلقي السلم فيقتله بتأويل فيتقاعسن عن الجهاد لهذه الشبهة، فأتى عقيب ذلك بفضل الجهاد وفوزه بما ذكر في الآية من الدرجات والمغفرة والرحمة والأجر العظيم، دفعا لهذه الشبهة.
ويستوي هنا من الأفعال التي لا تكتفي بفاعل واحد، وإثباته لا يدل على عموم المساواة، وكذلك نفيه. وإنما عنى نفي المساواة في الفضل، وفي ذلك إبهام على السامع، وهو أبلغ من تحرير المنزلة التي بين القاعد والمجاهد. فالمتأمل يبقي مع فكره، ولا يزال يتخيل الدرجات بينهما، والقاعد هو المتخلف عن الجهاد، وعبر عن ذلك بالقعود، لأن القعود هيئة من لا يتحرك إلى الأمر المقعود عنه في الأغلب. وأولو الضرر هم من لا يقدر على الجهاد لعمى، أو مرض، أو عرج، أو فقد أهبة. والمعنى: لا يستوي القاعدون القادرون على الغزو والمجاهدون. وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وحمزة: غير برفع الراء. ونافع، وابن عامر، والكسائي: بالنصب، ورويا عن عاصم. وقرأ الأعمش وأبو حيوة: بكسرها. فأما قراءة الرفع فوجهها الأكثرون على الصفة، وهو قول سيبويه، كما هي عنده صفة في * (غير المغضوب عليهم) * ومثله قول لبيد:
* وإذا جوزيت قرضا فاجزه * إنما يجزي الفتى غير الجمل * كذا ذكره أبو علي، ويروى: ليس الجمل. وأجاز بعض النحويين فيه البدل. قيل: وهو إعراب ظاهر، لأنه جاء بعد نفي، وهو أولى من الصفة لوجهين: أحدهما: أنهم نصوا على أن الأفصح في النفي البدل، ثم النصب على الاستثناء