وسائرهم. ويعني الإيمان التام النافع. واسم كان ضمير يعود على المصدر المفهوم من آمن كما يقول من صدق كان خيرا له، أي لكان هو، أي الإيمان. وعلق كينونة الإيمان خيرا لهم على تقدير حصوله توبيخا لهم مقرونا بنصحه تعالى لهم أن لو آمنوا لنجوا أنفسهم من عذاب الله. وخبر هنا أفعل التفضيل، والمعنى: لكان خيرا لهم مما هم عليه، لأنهم إما آثروا دينهم على دين الإسلام حبا في الرئاسة واستتباع العوام، فلهم في هذا خط دنيوي. وإيمانهم يحصل به الحظ الدنيوي من كونهم يصيرون رؤساء في الإسلام، والحظ الأخروي الجزيل بما وعدوه على الإيمان من إيتائهم أجرهم مرتين. وقال ابن عطية: ولفظة خير صيغة تفضيل، ولا مشاركة بين كفرهم وإيمانهم في الخير، وإنما جاز ذلك لما في لفظة خير من الشياع وتشعب الوجوه، وكذلك هي لفظة أفضل وأحب وما جرى مجراها انتهى كلامه. وإبقاؤها على موضوعها الأصلي أولى إذا أمكن ذلك، وقد أمكن إذ الخيرية مطلقة فتحصل بأدنى مشاركة.
* (منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون) * ظاهر اسم الفاعل التلبس بالفعل، فأخبر تعالى أن من أهل الكتاب من هو ملتبس بالإيمان كعبد الله بن سلام، وأخيه، وثعلبة بن سعيد، ومن أسلم من اليهود. وكالنجاشي، وبحيرا، ومن أسلم من النصارى إذ كانوا مصدقين رسول الله صلى الله عليه وسلم) قبل أن يبعث وبعده. وهذا يدل على أن المراد بقوله: * (ولو ءامن أهل الكتاب) * الخصوص، أي باقي أهل الكتاب إذ كانت طائفة منهم قد حصل لها الإيمان. وقيل: المراد باسم الفاعل هنا الاستقبال. أي منهم من يؤمن، فعلى هذا يكون المراد بأهل الكتاب العموم، ويكون قوله: منهم المؤمنون إخبارا بمغيب وأنه سيقع من بعضهم الإيمان، ولا يستمرون كلهم على الكفر. وأخبر تعالى أن أكثرهم الفاسقون، فدل على أن المؤمنين منهم قليل. والألف واللام في المؤمنون وفي الفاسقون يدل على المبالغة والكمال في الوصفين، وذلك طاهر لأن من آمن بكتابه وبالقرآن فهو كامل في إيمانه، ومن كذب بكتابه إذ لم يتبع ما تضمنه من الإيمان برسول الله، وكذب بالقرآن فهو أيضا كامل في فسقه متمرد في كفره.
* (لن يضروكم إلا أذى وإن يقاتلوكم يولوكم الادبار ثم لا ينصرون) * هاتان الجملتان تضمنتا الأخبار بمعنيين مستقبلين وهو: إن ضررهم إياكم لا يكون إلا أذى، أي شيئا تتأذون به، لا ضررا يكون فيه غلبة واستئصال. ولذلك إن قاتلوكم خذلوا ونصرتم، وكلا هذين الأمرين وقع لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم)، ما ضرهم أحد من أهل الكتاب ضررا يبالون به، ولا قصدوا جهة كافر إلا كان لهم النصر عليهم والغلبة لهم.
والظاهر أن قوله: إلا أذى استثناء متصل، وهو استثناء مفرغ من المصدر المحذوف التقدير: لن يضروكم ضررا إلا ضررا يسيرا لا نكاية فيه، ولا إجحاف لكم. وقال الفراء والزجاج والطبري وغيرهم: هو استثناء منقطع، والتقدير: لن يضروكم لكن أذى باللسان، فقيل: هو سماع كلمة الكفر. وقيل: هو بهتهم وتحريفهم. وقيل: موعد وطعن. وقيل: كذب يتقولونه على الله قاله: الحسن، وقتادة.
ودلت هذه الجملة على ترغيب المؤمنين في تصلبهم في دينهم وتثبيتهم عليه، وعلى تحقير شأن الكفار، إذ صاروا ليس لهم من ضرر المسلمين شيء إلا ما يصلون إليه من إسماع كلمة بسوء.
* (وإن يقاتلوكم يولوكم الادبار) *، هذه مبالغة في عدم مكافحة الكفار للمؤمنين إذا أرادوا قتالهم، بل بنفس ما تقع المقابلة ولوا الأدبار، فليسوا ممن يغلب ويقتل وهو مقبل على قرنه غير مدبر عنه. وهذه الجملة جاءت كالمؤكدة للجملة قبلها، إذ تضمنت الإخبار أنهم لا تكون لهم غلبة ولا قهر ولا دولة على المؤمنين، لأن حصول ذلك إنما يكون سببه صدق القتال والثبات فيه، أو النصر المستمد من الله، وكلاهما ليس لهم. وأتى بلفظ الإدبار لا بلفظ الظهور، لما في ذكر الإدبار من الإهانة دون ما في الظهور، ولأن ذلك أبلغ في الانهزام والهرب. ولذلك ورد في القرآن مستعملا دون لفظ الظهور لقوله تعالى: * (سيهزم الجمع ويولون الدبر) * * (ومن يولهم يومئذ دبره) * ثم لا ينصرون: هذا استئناف أخبار أنهم لا ينصرون أبدا. ولم يشرك في الجزاء فيجزم، لأنه ليس مرتبا على الشرط، بل التولية مترتبة على