والعذاب، وهنا جعلهم مستقرين في الرحمة، فالرحمة ظرف لهم وهي شاملتهم. ولما أخبر تعالى أنهم مستقرون في رحمة الله بين أن ذلك الاستقرار هو على سبيل الخلود لا زوال منه ولا انتقال، وأشار بلفظ الرحمة إلى سابق عنايته بهم، وأن العبد وإن كثرت طاعته لا يدخل الجنة إلا برحمة الله تعالى. وقال ابن عباس: المراد بالرحمة هنا الجنة، وذكر الخلود للمؤمن ولم يذكر ذلك للكافر إشعارا بأن جانب الرحمة أغلب. وأضاف الرحمة هنا إليه ولم يضف العذاب إلى نفسه، بل قال: * (فذوقوا العذاب) * ولما ذكر العذاب علله بفعلهم، ولم ينص هنا على سبب كونهم في الرحمة. وقرأ أبو الجوزاء وابن يعمر: فأما الذين اسوادت، وأما الذين ابياضت بألف. وأصل افعل هذا افعلل يدل، على ذلك اسوددت واحمررت، وأن يكون للون أو عيب حسي، كأسود، وأعوج، واعوز. وأن لا يكون من مضعف كاحم، ولا معتل لام كألمى، وأن لا يكون للمطاوعة. وندر نحو: انقض الحائط، وابهار الليل، وإشعار الرجل بفرق شعره، وشذا رعوى، لكونه معتل اللام بغير لون ولا عيب مطاوعا لرعوته بمعنى كففته. وأما دخول الألف فالأكثر أن يقصد عروض المعنى إذا جيء بها، ولزومه إذا لم يجأ بهما. وقد يكون العكس. فمن قصد اللزوم مع ثبوت الألف قوله تعالى: * (مد) * ومن قصد العروض مع عدم الألف قوله تعالى: * (تزاور عن كهفهم) * واحمر خجلا. وجواب أما ففي الجنة، والمجرور خبر المبتدأ، أي فمستقرون في الجنة. وهم فيها خالدون جملة مستقلة من مبتدأ وخبر، لم تدخل في حيز أما، ولا في إعراب ما بعده. دلت على أن ذلك الاستقرار هو على سبيل الخلود. وقال الزمخشري: (فإن قلت) كيف موقع قوله: هم فيها خالدون بعد قوله: ففي رحمة الله؟ (قلت): موقع الاستئناف. كأنه قيل: كيف يكونون فيها؟ فقيل: هم فيها خالدون، لا يظعنون عنها ولا يموتون انتهى. وهو حسن. وقيل: جواب أما ففي الجنة هم فيها خالدون، وهم فيها خالدون ابتداء. وخبر وخالدون العامل في الظرفين، وكرر على طريق التوكيد لما يدل عليه من الاستدعاء والتشويق إلى النعيم المقيم.
* (تلك ءايات الله نتلوها عليك بالحق وما الله يريد ظلما للعالمين) * الإشارة بتلك قيل: إلى القرآن كله. وقيل: إلى ما أنزل من الآيات في أمر الأوس والخزرج واليهود الذين مكروا بهم، والتقدم إليهم بتجنب الافتراق. وكشف تعالى للمؤمنين عن حالهم وحال أعدائهم بقوله: * (يوم تبيض وجوه وتسود وجوه) * وقيل: تلك بمعنى هذه لما انقصت صارت كأنها بعدت. وقال الزمخشري: تلك آيات الله الواردة في الوعد والوعيد، وكذا قال ابن عطية. قال الإشارة بتلك إلى هذه الآيات المتقدمة المتضمنة تعذيب الكفارة وتنعيم المؤمنين.
وقرأ الجمهور نتلوها بالنون على سبيل الالتفات، لما في إسناد التلاوة للمعظم ذاته من الفخامة والشرف. وقرأ أبو نهيك بالياء. والأحسن أن يكون الضمير المرفوع في نتلوها في هذه القراءة عائد على الله، ليتحد الضمير. وليس فيه التفات، لأنه ضمير غائب عاد على اسم غائب. ومعنى التلاوة: القراءة شيئا بعد شيء، وإسناد ذلك إلى الله على سبيل المجاز، إذ التالي هو جبريل لما أمره بالتلاوة كان كأنه هو التالي تعالى. وقيل: يجوز أن يكون معنى يتلوها ينزلها متوالية شيئا بعد شيء. وجوزوا في قراءة أبي نهيك أن يكون ضمير الفاعل عائدا على جبريل وإن لم يجر له ذكر للعلم به.
ومعنى بالحق أي بإخبار الصدق. وقيل: المعنى متضمنة الأفاعيل التي هي أنفسها حق من كرامة قوم وتعذيب آخرين. وتلك مبتدأ أو آيات الله خبره، ونتلوها جملة حالية. قالوا: والعامل فيها اسم الإشارة. وجوزوا أن يكون آيات الله بدلا، والخبر نتلوها. وقال الزجاج: في الكلام حذف تقديره تلك آيات القرآن المذكورة حجج الله ودلائله انتهى. فعلى هذا الذي قدره يكون خبر المبتدأ محذوف، لأنه عنده بهذا التقدير يتم معنى الآية. ولا حاجة إلى تقدير هذا