تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٣ - الصفحة ٣٣
المقاتلة. والنصر منفى عنهم أبدا سواء قاتلوا أم لم يقاتلوا، إذ منع النصر سببه الكفر. فهي جملة معطوفة على جملة الشرط والجزاء، كما أن جملة الشرط والجزاء معطوفة على لن يضروكم إلا أذى. وليس امتناع الجزم لأجلهم كما زعم بعضهم زعم أن جواب الشرط يقع عقيب المشروط. قال:
وثم للتراخي، فلذلك لم تصلح في جواب الشرط. والمعطوف على الجواب كالجواب وما ذهب إليه هذا الذاهب خطأ، لأن ما زعم أنه لا يجوز قد جاء في أفصح كلام. قال تعالى: * (وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم) * فجزم المعطوف بثم على جواب الشرط. وثم هنا ليست للمهلة في الزمان، وإنما هي للتراخي في الإخبار. فالإخبار بتوليهم في القتال وخذلانهم والظفر بهم أبهج وأسر للنفس. ثم أخبر بعد ذلك بانتفاء النصر عنهم مطلقا. وقال الزمخشري: التراخي في المرتبة، لأن الإخبار بتسليط الخذلان عليهم أعظم من الإخبار بتوليهم الإدبار. (فإن قلت): ما موقع الجملتين، أعني منهم: المؤمنون ولن يضروكم؟ (قلت): هما كلامان واردان على طريق الاستطراد عند إجراء ذكر أهل الكتاب، كما يقول القائل: وعلى ذكر فلان فإن من شأنه كيت وكيت، ولذلك جاء من غير عاطف.
* (ضربت عليهم الذلة) * تقدم شرح هذه الجملة، وهي وصف حال تقررت على اليهود في أقطار الأرض قبل مجيء الإسلام. قال الحسن: جاء الإسلام والمجوس تجبي اليهود الجزية، وما كانت لهم غيرة ومنعه إلا بيثرب وخيبر وتلك الأرض، فأزالها بالإسلام ولم تبق لهم راية في الأرض.
* (أينما ثقفوا) * عام في الأمكنة. وهي شرط، وما مزيدة بعدها، وثقفوا في موضع جزم، وجواب الشرط محذوف يدل عليه ما قبله، ومن أجاز تقديم جواب الشرط قال: ضربت هو الجواب، ويلزم على هذا أن يكون ضرب الذلة مستقبلا. وعلى الوجه الأول هو ماض يدل على المستقبل، أي ضربت عليهم الذلة، وحيثما ظفر بهم ووجدوا تضرب عليهم، ودل ذكر الماضي على المستقبل، كما دل في قول الشاعر:
* وندمان يزيد الكأس طيبا * سقيت إذا تغورت النجوم * التقدير: سقيت، وأسقية إذا تغورت النجوم.
* (إلا بحبل من الله وحبل من الناس) * هذا استثناء ظاهره الانقطاع، وهو قول: الفراء، والزجاج. واختيار ابن عطية، لأن الذلة لا تفارقهم. وقدره الفراء: إلا أن يعتصموا بحبل من الله، فحذف ما يتعلق به الجار كما قال: حميد بن نور الهلالي:
رأتني بحبليها فصدت مخافة ونظره ابن عطية بقوله تعالى: * (وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا) * قال: لأن بادىء الرأي يعطي أن له أن يقتل خطأ. وأن الحبل من الله ومن الناس يزيل ضرب الذلة، وليس الأمر كذلك. وإنما في الكلام محذوف يدركه فهم السامع الناظر في الأمر وتقديره: في أمتنا، فلا نجاة من الموت إلا بحبل. نتهى كلامه. وعلى ما قدره لا يكون استثناء منقطعا، لأنه مستثنى من جملة مقدرة وهي قوله: فلا نجاة من الموت، وهو متصل على هذا التقدير فلا يكون استثناء منقطعا من الأول ضرورة أن الاستثناء الواحد لا يكون منقطعا متصلا. والاستثناء المنقطع كما قرر في علم النحو على قسمين منه: ما يمكن أن يتسلط عليه العامل، ومنه ما لا يمكن فيه ذلك، ومنه هذه الآية. على تقدير الانقطاع، إذ التقدير: لكن اعتصامهم بحبل من الله وحبل من الناس ينجيهم من القتل والأسر وسبي الذراري واستئصال أموالهم. ويدل على أنه منقطع الأخبار بذلك في قوله تعالى في سورة البقرة: * (وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباءوا بغضب من الله) * فلم يستثن
(٣٣)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 ... » »»