تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٣ - الصفحة ٢١
وقولهم: اعتصمت بحبل فلان يحتمل أن يكون من باب التمثيل، مثل استظهاره به ووثوقه بإمساك المتدلي من مكان مرتفع بحبل وثيق يأمن انقطاعه. ويحتمل أن يكون من باب الاستعارة، استعار الحبل للعهد والاعتصام للوثوق بالعهد، وانتصاب جميعا على الحال من الضمير في * (واعتصموا) * * (ولا تفرقوا) * نهوا عن التفرق في الدين والاختلاف فيه كما اختلف اليهود والنصارى. وقيل: عن المخاصمة والمعاداة التي كانوا عليها في الجاهلية. وقيل: عن إحداث ما يوجب التفرق ويزول معه الاجتماع. وقد تعلق بهذه الآية فريقان: نفاة القياس والاجتهاد كالنظام وأمثاله من الشيعة، ومثبتو القياس والاجتهاد. قال الأولون، غير جائز أن يكون التفرق والاختلاف دينا لله تعالى مع نهي الله تعالى عنه. وقال الآخرون: التفرق المنهى عنه هو في أصول الدين والإسلام. * (واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار) * الخطاب لمشركي العرب قاله: الحسن وقتادة يعني من آمن منهم، إذ كان القوي يستبيح الضعيف. وقيل: للأوس والخزرج. ورجح هذا بأن العرب وقت تزول هذه الآية لم تكن مجتمعة على الإسلام، ولا مؤتلفة القلوب عليه، وكانت الأوس والخزرج قد اجتمعت على الإسلام وتألفت عليه بعد العداوة المفرطة والحروب التي كانت بينهم، ولما تقدم أنه أمرهم بالاعتصام بحبل الله وهو الدين ونهاهم عن التفرق وهو أمر ونهي، بديمومة ما هم عليه إذ كانوا معتصمين ومؤتلفين ذكرهم بأن ما هم عليه من الاعتصام بدين الإسلام وائتلاف القلوب إنما كان سببه إنعام الله عليهم بذلك. إذ حصل منه تعالى خلق تلك الداعية في قلوبهم المستلزمة بحصول الفعل، فذكر بالنعمة الدنيوية والأخروية. أما الدنيوية فتألف قلوبهم وصيرورتهم إخوة في الله متراحمين بعدما أقاموا متحاربين متقاتلين نحوا من مائة وعشرين سنة إلى أن ألف الله بينهم بالإسلام. وكان أعني الأوس والخزرج جداهم أخوان لأب وأم. وأما الأخروية فإنقاذهم من النار بعد أن كانوا أشفوا على دخولها. وبدأ أولا بذكر النعمة الدنيوية لأنها أسبق بالفعل، ولاتصالها بقوله: * (ولا تفرقوا) * وصار نظير * (يوم تبيض وجوه وتسود وجوه فأما الذين اسودت) * ومعنى فأصبحتم، أي صرتم. وأصبح كما ذكرنا في المفردات تستعمل لاتصاف الموصوف بصفته وقت الصباح، وتستعمل بمعنى صار، فلا يلحظ فيها وقت الصباح بل مطلق الانتقال والصيرورة من حال إلى حال. وعليه قوله:
* أصبحت لا أحمل السلاح ولا * أملك رأس البعير أن نفرا * قال ابن عطية: فأصبحتم عبارة عن الاستمرار، وإن كانت اللفظة مخصوصة بوقت ما، وإنما خصت هذه اللفظة بهذا المعنى من حيث هي مبتدأ النهار، وفيها مبدأ الأعمال. فالحال التي يحسبها المرء من نفسه فيها هي الحال التي يستمر عليها يومه في الأغلب، ومنه قول الربيع بن ضبع:
* أصبحت لا أحمل السلاح ولا * أملك رأس البعير إن نفرا * وهذا الذي ذكره: من أن أصبح للاستمرار، وعلله بما ذكره لا أعلم أحدا من النحويين ذهب إليه، إنما ذكروا أنها تستعمل على الوجهين اللذين ذكرتهما. وجوز الحوفي في (إذ) أن ينتصب باذكروا، وجوز غيره أن ينتصب بنعمة. أي إنعام الله،
(٢١)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 ... » »»