تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٢ - الصفحة ٥٢
ليكون حذفه أسهل من حذفه مجرورا. والثاني: حذف مضاف به يصح الكلام، التقدير: على اتباع الذي هداكموه، وما أشبه هذا التقدير مما يصح به معنى الكلام.
والظاهر أن معنى: هداكم، حصول الهداية لكم من غير تقييد، وقيل: المعنى، هدايتكم لما ضل فيه النصارى من تبديل صيامهم، وإذا كانت بمعنى: الذي، فالمعنى على ما أرشدكم إليه من شريعة الإسلام.
* (ولعلكم تشكرون) * هو ترج في حق البشر على نعمة الله في الهداية، قاله ابن عطية: فيكون الشكر على الهداية، وقيل: المعنى تشكرون على ما أنعم به من ثواب طاعاتكم.
وقال الزمخشري: ومعنى * (ولعلكم تشكرون) * وإرادة أن تشكروا، فتأول الترجي من الله على معنى الإرادة، وجعل ابن عطية الترجي من المخلوق، إذ الترجي حقيقة يستحيل على الله، فلذلك أوله الزمخشري بالإرداة، وجعله ابن عطية من البشر، والقولان متكافئان، وإذا كان التكليف شاقا ناسب أن يعقب بترجي التقوى، وإذا كان تيسيرا ورخصة ناسب أن يعقب بترجي الشكر، فلذلك ختمت هذه الآية بقوله: * (لعلكم تشكرون) * لأن قبله ترخيص للمريض والمسافر بالفطر، وقوله: * (يريد الله بكم اليسر) * وجاء عقيب قوله: * (كتب عليكم الصيام * لعلكم تتقون) * وقبله * (ولكم في القصاص حيواة) * ثم قال: * (لعلكم تتقون) * لأن الصيام والقصاص من أشق التكاليف، وكذا يجيء أسلوب القرآن فيما هو شاق وفيما فيه ترخيص أو ترقية، فينبغي أن يلحظ ذلك حيث جاء فإنه من محاسن علم البيان.
* (وإذا سألك عبادي * عنى * فإني قريب) * سبب النزول فيما قال الحسن: أن قوما، قيل: اليهود، وقيل: المؤمنون، قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم): أقريب ربنا فنناجيه، أم بعيد فنناديه. وقال عطاء: لما نزل. * (وقال ربكم ادعونى أستجب لكم) * قال قوم: في أي ساعة ندعوا؟ فنزل * (وإذا سألك) * ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى لما تضمن قوله: * (ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون) * طلب تكبيره وشكره بين أنه مطلع على ذكر من ذكره وشكر من شكره، يسمع نداءه ويجيب دعاءه أو رغبة، تنبيها على أن يكون ولا بد مسبوقا بالثناء الجميل.
والكاف في: سألك، خطاب النبي صلى الله عليه وسلم)، فكأنه قيل: (أنزل عليك فيه القرآن، فجاء هذا الخطاب مناسبا لهذا المحذوف). و: عبادي، ظاهره العموم، وقيل: أريد به الخصوص: إما اليهود وإما المؤمنون على الخلاف في السبب، وأما عبادي. و: عني، فالضمير فيه لله تعالى، وهو من باب الالتفات، لأنه سبق و: التكبروا لله، فهو خروج من غائب إلى متكلم، و: عني، متعلق بسألك، وليس المقصود هنا عن ذاته لأن الجواب وقع بقوله: فإني قريب، والقرب المنسوب إلى الله تعالى يستحيل أن يكون قربا بالمكان، وإنما القرب هنا عبارة عن كونه تعالى سامعا لدعائه، مسرعا في إنجاح طلبه من سأله، فمثل حالة تسهيله ذلك بحالة من قرب مكانه ممن يدعوه، فإنه لقرب المسافة يجيب دعاءه ونظير هذا القرب هنا قوله تعالى: * (ونحن أقرب إليه من حبل الوريد) * وما روي من قوله عليه السلام: (هو بينكم وبين أعناق رواحلكم).
والفاء في قوله: فإني قريب، جواب إذا، وثم قول محذوف تقديره: فقل لهم إني قريب لأنه لا يترتب على الشرط القرب، إنما يترتب الإخبار عن القرب.
(٥٢)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 ... » »»